مفتاح قناو
المسرح الغنائي لون من الوان المسرح الذي يسمى أستاذ الشعوب، وهو جدير بهذه التسمية التي لم تنطلق من فراغ، لأن الدول يمكنها أن تعلم الشعوب من خلال المسرح، وفي مسيرة المسرح الغنائي العربي لابد لنا من التوقف أمام تجربتين مسرحتين هامتين، الأولى هو تجربة مسرح الفنان سيد درويش في النصف الأول من القرن العشرين، ـ والذي وإن لم يكن صاحب الانطلاقة الأولى لهذا الفن فقد سبقه سلامة حجازي وداود حسني وكامل الخلعي ـ إلا أن سيد درويش احدث انقلابا كبيرا في المسرح الغنائي المصري، فقد طور أساليب الغناء القديمة حيث لم يعد المطرب الفرد هو من يقدم الأعمال الغنائية، بل اعتمد كثيرا على المجموعات الصوتية والكورال المرافق للمطرب، كما ادخل جموع الجماهير الحاضرة للعرض للمشاركة في الغناء، وهنا يقول النقاد بأن سيد درويش قد قام ) بمسرحت ) العمل الغنائي ( أي أنه قد جعل من الغناء عملاً مسرحيا ) لذلك يعتبر النقاد أن موسيقى سيد درويش هي ( موسيقى تعبيرية ) وليست (موسيقى تنغيم وطرب) حيث أصبح العمل الغنائي في عهده معبرا عن الحدث المسرحي، وليس كما كان قبل سيد درويش عندما كانت الأغاني في المسرحيات تقدم بشكل منفصل عن الحدث الدرامي المسرحي ولا تعبر عنه.
التجربة الهامة الثانية، والتي لا يمكن تجاوزها ولابد من الحديث عنها كانت مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وهي تجربة الأخوين رحباني مع المطربة فيروز، حيث كانت البداية مع استعراض يسمى ( أيام الحصاد )، ثم توالت العديد من المسرحيات، وكان مسرح بعلبك في الستينيات ضاجا بها، هذه التجربة التي قدمت أيضا مسرحا غنائيا أساسه تقديم أعمال غنائية للفنانة فيروز، مع وضع قصة للمسرحية تتضمن مجموعة كبيرة من الأغاني تقدم بأصوات عدد من الفنانين والفنانات، أو بأداء جماعي مع ربط هذه الأغاني بحوارات قصيرة، لذلك لم يكن ضروريا للمتلقي العربي مشاهدة هذه المسرحيات على خشبة المسرح، بل يمكنه الاستمتاع بها كاملة حتى من خلال البث المسموع عبر الراديو أو شرائط الكاسيت التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
لم يعتمد مسرح الأخوين رحباني على مقدرة تمثيلية عالية للفنانين المشاركين للسيدة فيروز، بل كانت تكفي قدرتهم العالية على الغناء والأداء الحركي المعبر عن الحالة، فهذا المسرح كان يعتمد على قوة الصوت وجماله والألحان والرقصات المصاحبة للحدث بشكل خاص، وقد عنى هذا المسرح بشكل خاص بالشق الجمالي للعمل المسرحي الغنائي، لذلك امتلك تأثيرا كبيرا على التربية الجمالية للمتلقي العربي ، وتعليمه ( الاتيكيت )، ونقل المتلقي العربي إلى افق واسع من الاستمتاع الفني، الذي كان يدعو إلى السمو النفسي، من خلال التركيبات الفنية التي تنمي الذائقة الفنية للمستمع والمشاهد.