علي المقرحي
( ويــل للعالــم مــن العثــرات، فـلا بــد مــن أن تجــيء العثــرات – ولكــن ويــل لذلــك الــذي بــه تجــيء العثــرات )
السيد المسيح عليه السلام .
واقعنــا الراهــن فــي ليبيــا بــل وفــي المنطقــة كلهــا، ولا نبالــغ حيــن نقــول فــي العالــم كلــه، تفــوق كل دواعــي
الثقافــة والفكــر وإغــراءات النخبويــة والتميــز، التــي لمــا يتحــرر منهــا كثيــرون ولما تدفعهــم إلــى الثرثــرة قــولا وكتابــة ومواقفــا وســلوكا، دون أن يميزهــم مميــز عــن بلهاء بيزنطــة الذيــن انشــغلوا ( فيمــا فيليــب المقدونــي يحاصر مدينتهــم ) بهــل الملائكــة ذكــورا أم إناثــا ؟ وبكــم منهــا ، يمكــن لهــا الوقــوف مجتمعــة علــى رأس إبــرة ؟ . أقــول : – الواقــع الراهــن الــذي نعيــش فيــه ونعايشــه، أقــوى وأشــد إلحاحــا مــن كل الدواعــي إلــى إعــادة قــراءة الصــادق النيهــوم، وإلــى الوقــوف علــى دقائــق فكــره ومواجهــة الأســئلة التــي اســتخلصها مــن حــواره مــع الوجــود والحيــاة والعالــم والعصــر، وصراعــه مع الثقافــات والأفكار والرؤى التــي بحــث فيهــا وعرفهــا وحاورهــا، وهــي الأســئلة التــي مــا انفــك يمعــن النظــر فيهــا ويعيــد صياغتهــا وطرحهــا بلغتــه وبمــا لا يناقــض فهمــه ورؤاه وأفــكاره، والتــي بقيــت ( وهــو الأمــر الأهــم ) حتــى بعــد رحيلــه تنتصــب أمامنــا حيثمــا وجهنــا أنظارنــا، وأينمــا يممنا الســير، مجســدة في هــذا الواقــع الراهــن بــكل أبعــاده وجوانبــه، وبــكل مــا يكتظ بــه مــن مظاهــر الارتبــاك والفوضــى والتخلــف، وبــكل مــا قــد يكــون منطويــا عليــه مــن إمكانيــات التحــرر مــن كل تلــك المســاوئ وتجــاوز الراهــن الغائــم والمتــردي إلــى غــدـ نحلــم بــه ونأمــل فــي تحقيقــه . ومســوغ القــول بــأن واقعنــا يدعونــا إلــى إعــادة قــراءة النيهــوم، هــو أثــر أفــكار النيهــوم الــذي يطالعنــا فيمــا نعيشــه ونعايشــه فــي مختلف جوانــب هــذا الواقــع وبأشــد نصاعــة ووضوحــا وقــوة ممــا تطالعنــا أفــكار مــن يتوهمــون بأنهــم يمســكون بناصيــة هــذا الواقــع ويحركونــه كمــا يَعـِـنُّ لهــم، فمــن اللغــة التــي لا تخلــوا مــن تفــكك وانقطــاع صلــة بمــا يفتــرض أن تقولــه وتــدل عليــه، إلــى المواقــف والســلوكيات الخاضعــة لمــا تخضــع لــه اللغــة مــن ســنن التناقــض والتفــكك والانحلا ل، مثلمــا نطالــع ذلــك الأثــر فــي غلبــة الأنانيــة الفرديــة، وحيــن انتفاخهــا وتورمهــا إلــى عنصريــة وتعصــب قبلــي وجهــوي وأيديولوجــي وإلــى كل مــا يعلــن الجهــل والتخلــف ويطوبهمــا، بــل ويقدســهما . وإن بــدا لأحــد مــا أن فيمــا يســاق هنــا محاولــة لاتهــام النيهــوم بأنــه المتســبب فيمــا نحــن فيــه اليــوم، وأن بــه ( وفــق قــول الســيد المســيح الــذي يتصــدر هــذا المقــال ) جــاءت العثــرات التــي أربكــت ومــا زالــت تربــك ســيرنا وتعرقــل حركتنــا، فلــن يكــون مــا بــدا لذلــك الأحــد إلا نتيجــة مباشــرة للافتقــار إلــى الموضوعيــة وللخضــوع إلــى انحيــاز مــا متــدن يكتفــي بالســطحيات ليؤولها بما يوافق إنحيازاته، إذ ليس صعبا أن نســلم أنفســنا للإنحيــازات المتدنيــة ولمــا يجــيء عنهــا مــن فوضــى الانفعــالات العاطفيــة، لنجــد فــي متناولنــا مــا لا حصــر لــه مــن المبــررات لإدانــة الصــادق النيهــوم ( أو غيــر الصــادق النيهــوم )، ومــا لا يعــد مــن الحجــارة، ومــا تطيــب بــه نفوســنا مــن الشــتائم والنعــوت المقذعــة التــي لا تكلــف جهــدا لاســتدعائها، أو أن ( فــي المقابــل ) ننحــاز إليــه بانبهــار بــه يورثنــا عشــا لا يتــرك لنــا إمكانيــة أن نــرى غيــره، فننزهــه مــن كل مثلبــة وهنــة بشــرية ونوثنــه بــأن نضفــي عليــه مــن ســمات الكمــال والســمو مــا لــم يفكــر بــه هــو نفســه ولا ادعــاه ولا طمــح إليــه، ليــس صعبــا أن نفعــل أيــا مــن ذلــك لكــن الصعــب فعــلا « والــذي قــد يكــون مســتحيلاً للبعــض « هــو الإنصــات لصــوت العقــل لا ثرثــرة العواطــف والأهــواء ومــا نشــتهي أو مــا يجــيء بــه الخراصــون. فــي هــذا الصــدد يجــيء النظــر فــي علاقــة النيهــوم بالقذافــي ومحاولــة فهــم ماهيــة تلــك العلاقة وأبعادهــا وحدودهــا، بموضوعيــة وتجــرد، كضــرورة لا بــد منهــا ولا يمكــن تجاوزهــا لمــن يهــدف إلــى فهــم واقعنــا الراهــن، وذلــك فــي مقابــل تركيــز النظــر القاصــر والفهــم المتهافــت الهــادف ( بمجانيــة مخزيــة ) إلى تشــويه وإدانة أي مــن الرجليــن أو إلــى تنزيهــه وتوثينــه، وذلــك ديــدن الصبيــة البلهــاء ومدعــي الثقافــة والوعــي والتميــز ممــن يتبعونهمــا وممــن يناوئونهمــا علــى الســواء.
بقــي القــول أن هــذا المقــال مجــرد مدخــل إلــى محاولة لقــراءة النيهــوم، وهــي لا تدعــي ولا تنســب لنفســها تميــزا مــن أي نــوع ولا تفوقــا علــى غيرهــا، بــل تعــي حدودهــا وحــدود مــا تســتهله ومــا تحملــه، وتكتفــي بــأن تكــون محاولــة متواضعــة فــي درب لا يقــل عــن طرقاتنــا وشــوارعنا امتــلاءً بالحفــر والمســتنقعات وحتــى أكــوام
النفايــات، وتوقــن أن هنــاك « دون شــك « مــن هــو أكثــر, أهليــة وقــدرة علــى الســير فــي هــذا الــدرب، وتحقيــق مــا قــد تقصــر عــن تحقيقــه.