بقلم / جمال الزائدي
لاشيء يجري عبثا في هذا الكون .. ثمة قوى مهيمنة تفرض قوانينها على الأحداث وتنظمها في سلسلة واحدة .. نحن المؤمنين نعرف أنه الله .. وآخرون يختلفون في التسمية فيقولون أنه “ اللوغوس”..
البراكين ..الفيضانات .. الزلازل المدمرة .. كلها كوارث غالبا ماتخلف مآسى وأحزانا تطال حياة الناس .. لكنها ضرورية لإعادة ضبط إيقاع الطبيعة .. هكذا يقول العلماء الراسخون في العلم ممن لاتشغلهم الأضرار القريبة العابرة بقدر انشغالهم بالغاية النهائية لكل مايحدث..
على هذا القياس يمكننا أيضا مقاربة حدث مأساوي متكرر في تاريخ البشرية الدامي .. ونعيشه اليوم في بلادنا بكل تفاصيله البائسة التي تنحت في العقل والوجدان الجمعي الليبي أخاديد خبرة جديدة لاشك أنها ستغير بعد حين في وجه الحياة وفي منظومة القيم نفسها..إنها الحرب .. الحرب دون إضافة ، أو حفر “أركيولوجي” لتبريرها وأنسنتها ، أو محاولة إسباغ القداسة أو حتى إدانتها .. الحرب بصفتها المجردة ، بفاعليتها الحياتية التي تنعكس على مصير ضحيتها .. قتل وإعاقة وتشريد وضياع أرزاق وفقر وعوز وانهيار علاقات .. هذه قصة الحرب كما يعيشها الناس في الواقع وهذه قصة الحرب كما لن تكتبها أقلام المشعوذين من إعلاميين ومؤرخين ..
في تجربتنا التي نكابد .. ستنتهي الحرب يوما ما بغض النظر عن نتيجتها .. يموت من يموت ويغادر من يغادر .. لكن الذين لم تنقض آجالهم ويصمدوا في أماكنهم سيكابدون آثار مابعد الحرب التي تشبه كثيرا آثار ما بعد السكر .. سيعيد الليبيون الذين نجوا من المذبحة التي بدأت منذ سنوات والله وحده يعلم متى ستنتهي ، تقييم منظومتهم الأخلاقية ، وسيتعرفون – بلا أوهام أو شوفينية مريضة – على رصيدهم الحقيقي من الرحمة والتسامح والإنسانية .. سيتذكر الناجون الذين نزحوا من قصر بن غشير ومن مشروع الهضبة ومن طريق المطار ومن وادي الربيع ومن عين زارة .. كيف عاملهم إخوانهم أصحاب البيوت البعيدة عن القصف وكيف أنهم لم يستغلوا ظرفهم وحاجتهم ويفرضوا عليهم أسعاراً مبالغ فيها مقابل الإيجار مع شرط دفع 6 أشهر مقدما..وستتذكر المرأة النازحة كيف أن موظف الإغاثة الحكومي أو المتطوع كان من النبل بحيث لم يفكر بابتزازها ومساومتها من أجل الحصول على حفاظات أو أكل لاطفالها.. سيتذكر الطفل أنه لم يحرم من تلقي العلم والمعرفة يوما رغم كل الظروف ولم يشاهد باب مدرسته يغلق بأكوام من التراب والحجارة لأن معلمه لم ينتهز لحظة ضعف الدولة ولم يختلط عليه الأمر في التمييز بين الحق والواجب..
كل هذه الذكريات ستعلم من بقي منا التواضع .. ولن تسمح لنا من جديد بالاستسلام لوهم أننا أفضل من جيراننا العرب والأفارقة .. سنعرف بلا لبس ، أن كون الواحد منا “ليبي” فهذا تعبير عن حالة قانونية مرتبطة بالجغرافية السياسية وقانون الجنسية وليس امتيازاً جينياً وهبته لنا الطبيعة لتضعنا تاجاً على رؤوس بقية الشعوب .. فنحن لسنا شعب الله المختار ولسنا الشعب الذي أبهر العالم .. نحن مجرد بشر يعيشون تجربتهم القاسية ويأملون أن يخرجوا منها بدرس مستفاد..
شاهد أيضاً
كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي
خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …