جمعة بوكليب
حين قالَ القائدُ القرطاجنّي حَنّبعل مقولته المشهورة:” كلُّ الطرقِ تَقودُ إلى روما،” كان، في حقيقة الأمر، يقصد أنَّ الطرقَ، مهما تعددت وتنوعت، ومهما كان بها من مصاعب ومشاق، ستقوده إلى تحقيق حلمه. كان حَنّبعل، وقتذاك، يرى شيئاً واحداً فقط، هو الوصول إلى تلك المدينة- روما- التي سادت العالم واكتساحها، والإستحواذ عليها. ذهبَ القائدُ القرطاجنّي حنّبعل إلى مدينة روما مرفوقاً بجيش جرّار، وبأربعين من الفيلة الضخمة، حسبما تقول المصادر التاريخية. الهدفُ كان كسر هيمنة روما. لكن روما تحصّنت وراء أسوارها المنيعة، وجعلته ينتظر أمام أبوابها المغلقة، حتى فتكت الأمراض والأوبئة والمجاعة بذلك الجيش الجرّار، وبتلك لفيلة الضخمة. فلم يجد بُداً من لَمّ شِتات ما أبقت عليه الأوبئة والمجاعة من جيشه، والعودة مُحبطاً، بعد أن رأى بأم عينيه حلمه، الساكن في عقله وقلبه، يُمزق طعناً بسكاكين رومانية من كل الأحجام، ومن كل الاتجاهات. روما المنقسمة توحّدت أمام العدو القرطاجنّي، وهزمته من دون أن تخسر رجلاً واحداً. في رحلة الذهاب إلى روما-الحُلم، لم يكن حنّبعل مشغولاً سوى بالوصول إلى نقطته الأخيرة / الهدف، واقتحامها. وذلك ما جعله يستخفُّ بالمشاق، ويجد حلولاً ألمعيةً وقتيةً لتجاوز الموانع والعوائق التي كانت تعوق تقدّم جيشه العرمرم. كان مسكوناً بحلم دخول روما منتصراً، وإعلان نهاية الامبراطورية الرومانية، ووراثة كل أملاكها. في رحلة الإياب من روما إلى قرطاج، اختلَّ توازنُ المعادلة. ومكانها ولدت معادلة من نوع آخر. الإياب من روما، لا يعني فقط العودة إلى قرطاج بما تبقى من جيشه. رحلةُ الإياب من روما كانت، في الوقت ذاته، تعني موت الحلم ونهاية الطرق. وهذا تحديداً ما ضاعف من آلام رحلة العودة إلى قرطاج. في رحلة الذهاب إلى تلك المدينة المسماة روما، كان القائد القرطاجنّي حنّبعل محمولاً على أجنحة الحلم. وفي رحلة العودة إلى قرطاج، كان عليه أن يحمل على كتفيه أثقال جثة حلمه المقتول. في رحلة العودة، كانت كل الطرق تقوده إلى بلده قرطاج. إلاّ أنّه لم ينتبه إلى ذلك، كما انتبه إلى علاقة الطرق بروما في رحلة الذهاب. كُتب التاريخ غطّت تفاصيل رحلة الذهاب، وغفلتْ أو أهملتْ اعلامنا بما حدث من حوادث في رحلة الإياب. عودة القادة والجيوش المهزومة إلى بلدانها منهكة ومحبطة، تبدو، إلى حدّ ما، غير مهمّة في أعين المؤرخين. فالمؤرخون، على اختلافهم، حرصوا، ويحرصون على رصد وتتبع وتسجيل وقائع حملات لقادة في طريقهم إلى تحقيق نصر استثنائي. ويتراخون قصداً حين يكون الأمرُ متعلّقاً بعودة محزنة لقادة منكسرين بالهزيمة. المقصودُ من العرض أعلاه، ليس الخوض في أسباب هزيمة حنّبعل، والذي لو تمكن خلال حملته من اكتساح روما لتغيّر مجرى التاريخ. وليس المقصودُ كذلك الخوض في نقاش حول المؤرخين ودورهم في نقل وتسجيل الوقائع. بل المقصودُ الكيفية التي تحوّلنا فيها أحلامنا إلى كائنات شبه أسطورية، تتجاوز طبيعتها البشرية، وتتحدى عوائق الجغرافيا والطبيعة، من أجل تحقيق تلك الأحلام. حنّبعل كان قائداً عسكرياً حَلمَ باكتساح روما وامتلاكها. لكنّه فشل. وكان على قرطاج أن تدفع، فيما بعد، الثمن فادحاً. لكن حنّبعل فعل كل ما بوسعه، وأكد على حقيقة مهمّة، تقول إن الحالمين لا يمكن أن تقهرهم مسافات، أوتصدّهم موانع وعوائق.
وحين يسكنكَ حُلم، فثق أن كل الطرق ستقودك إلى روما المُشتهاة، واحتمالك دخولها، شرط أن يُحالفك حُسن الحظ. لأن حُسن الحظ، تخلّى، آنذاك، عن القائد القرطاجنّي، ووقفَ في صَفِّ روما، فنجتْ.