جمعة بوكليب
زايد…ناقص
في كتابه ” السّيرةُ في المنفى” الصادر عام 2017 عن داري نشر ” برديّة للنّشر والتوزيع” و” مصر العربية للّنشر والتوزيع،” يروي القاص والروائي والمترجم المصري المرحوم بهاء طاهر قصة طريفة ومحزنة جداً في آن معاً، وفي ذات الوقت.
تدور القصة حول قرار صدر في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، في مصر بتصفية الاذاعة من الشيوعيين. وكان بهاء طاهر يعمل في الإذاعة، وكان الروائي يوسف السباعي، وقتذاك، وزيراً للثقافة. وعلاقتهما طيبة. لكن يوسف السباعي الوزير قرر أن يقود بنفسه حملة التطهير. وكانت الإذاعة تمتليء بالشيوعيين، حسب رواية بهاء طاهر. ومن بينهم جميعاً طُرد هو فقط. المفارقة يقول بهاء طاهر :” لم أكن أعرف أنني شيوعي إلا عن طريق قرار الطرد!” ويضيف:” كان يمكن أن يصبح الأمر مجرد قرار عليَّ تقبله، لو أني شيوعي بالفعل.” وكان سؤاله آنذاك:” ألم يجدوا غيري؟.” ذلك القرار اضطره إلى مغادرة مصر إلى المنفى مدة ربع قرن. يقول بهاء:” إن السباعي أعلن ندمه بعدها.”
بهاء طاهر يحكي عن الفترة الساداتية في تاريخ مصر المعاصر. في تلك الفترة الزمنية العصيبة جَنَّ جنون الرئيس الراحل السادات ضد اليسار، فازاحهم برفدهم من مواقعهم ومناصبهم في مختلف دواوين الحكومة، وخاصة في المواقع السياسية وفي المنابر الثقافية والاعلامية، وزج بقياداتهم وكوادرهم في السجون. وبالمقابل فتح الأبواب على مصارعها أمام الاسلاميين. فصالوا وجالوا، ولم يتوقفوا حتى قضوا عليه في يوم الاحتفال بانتصاره، في 6 أكتوبر عام 1981.
ما حدث مع الروائي بهاء طاهر، وما حدث في مصر للمثقفين، ليس جديداً على مصر. قبل السادات، امتلأت السجون في عهد سلفه المرحوم جمال عبد الناصر بالمفكرين، وبالمثقفين والكُتّاب الوطنيين من اليسار. ومن مصر، انتقلت عدوى معاداة الأنظمة للمثقفين والكتّاب إلى بقية الدول العربية. وفي ليبيا، الجارة، قام العقيد القذافي بنسخ التجربة المصرية الناصرية. ومن خلال ثورته الثقافية التي أعلنها في أبريل 1973، بدأ تنفيذ خطته الرامية إلى تصفية الساحة من كل خصم محتمل. وسرعان ما أمتلات السجون بالحزبيين والمثقفين والاكاديميين.
بهاء طاهر كان محظوظاً جداً، وباللهجة المحكية الليبية:” جاته في الريش” كونه نجا بجلده، ولم يتعرض لمحنة السجن. الطرد من الإذاعة لم يكن سهلاً، لأنّه كان يعني حرمانه من مصدر رزقه، في بلاد تسيطر فيها الدولة على كل وسائل الاعلام. وأفضى به إلى العيش غريباً في المنفى. لكن غيره في مصر، أو غيرها من “بلاد العُربِ أوطاني” لم يكونوا محظوظين. ووجدوا أنفسهم وراء اسوار السجون لسنوات طويلة. وخلال وجودهم في السجون، تغيّرت الدنيا كثيراً. والتغيّر، لايعني في هذا السياق، التطور والتقدم، بل الانتكاس للخلف. فحين يقوم نظام سياسي باعتقال مفكريه ومثقفيه وكتّابه المستنيرين، فإنه من دون أن يدري، يتيح لقوى أخرى البروز، وشغل الفراغ. وكان على مصر دفع الثمن باهظاً، مثلما كان على غيرها من الأنظمة العربية دفع الأثمان. والحصيلة النهائية تتمثل في الحاضر الذي نختنق في مستنقعات قذارته وفساده وضحالته.
المرحوم بهاء طاهر كان محظوظاً مرتين: الأولى حين نجا من محنة الحبس، والثانية تمكنه من إجادة لغات أجنبية، فتحت له الأبواب في بلاد الغربة، فعاش غريباً وكريماً. يقول بهاء معلقاً على غربته أو منفاه:” يبدو أن الثمن كان باهظاً، فقد كنت كطائر يسافر عن غير حيلة بين السموات، ولم يجد له موطناً كموطنه الذي غادره.”
رحم الله بهاء طاهر