بقلم /جمال الزايدى
ما يوّفر لنصوص الشاعر الفلسطيني الليبي جميل حمادة حضوراً مميزاً في ذائقة المتلقي تحرُّرها الدائم من شبهة التصنّع ، وتدفقها المستمر في مغامرة خالدة تتخذ من اللغة الطازجة مادةً للعب ، ومن الصور البكر هدفاً وحيداً ومتجدداً.. لذلك يصعب القبض على نمط مشترك لنصوصه يخوِّلنا تصنيفها في شكل أسلوبي مستقر.
لهذه الخاصية علاقة بطبيعة المبدع على الصعيد الإنساني .. فصاحبنا – وأنا أدعي علاقة شخصية به – يتمتع بقدرة وقابلية نَهمة للدهشة والاكتشاف بإزاء التفاصيل الاعتيادية التي يزدحم بها اليومي المكرر ، ومزاجٍ متحررٍ يذكِّرك ـ على نحو غامض ـ بأحد شخوص رائعة نيكوس كازنتزاكيس ” زوربا اليوناني” خصوصاً على صعيد التناقض الصارخ بين أبعاده الفيزيولوجية الجسدية ونضجه الاجتماعي ، وبين روحه الطفولية المشاغبة الشرهة التي تأبى الانصياع لوقار التجربة وتصاريف الزمن..
من الجرح النازف في قلب الأمة ” فلسطين “, نزح الفتى جميل حمادة منتصف سبعينيات القرن الماضي إلى البلاد التي اتخذها وطناً ثانياً ” ليبيا “, مثقلاً لا بالذكريات وأحزان الفقد وحدها .. ولكن بأحلام وتوق الفنان الشاعر الذي يضيق العالم بضجيج شِعريته وتطلعاتها..
من شاطئ بحر غزة – الذي هو أجمل من البحر الأبيض المتوسط كما تقول والدة محمود درويش – إلى شاطئ بحر طرابلس الغرب الذي بالكاد – في ذلك الحين – كان يشفي من آثار ما خلّفه القراصنة على رماله الحارة , ارتحل ابن الصياد الفلسطيني بحثاً عن سمكته الذهبية ، وعن فرصة أفضل للحياة والخلاص الرمزي من هزائم مُضنية أثقلت كاهل الإنسان والجغرافيا في أمة توشك على الخروج من التاريخ لولا بعض أمل يراود شعراءها ومجانينها ..
في هذه البلاد التي تشارك اليوم فلسطين النزيف , شقَّ حمادة دربه الراسخ كشاعر وناقد ، وأسس لتجربة شخصية لم ينقصها التفاعل الإيجابي مع الوسط الثقافي المحلي من خلال مشاركته الدائمة في المواعيد والمناسبات والمهرجانات الأدبية ومساهمته بالكتابة في معظم الإصدارات الصحفية المهتمة بالشعر والنقد ، إضافة إلى نشره لعدة كتب ودواوين..
آخرها كتابه الموسوم بـ” قمر لمراكب الغرباء ” الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع – الأردن .. وهو ديوان من القطع الصغير ضم 22 نصاً جميعها لم تشذ عن النسق الشعري الذي اختطه حماده لنفسه منذ عقود ، وإن تنوعت أغراضها وموضوعاتها إذ ظلت “تيمات” محددة تحكم فضاء النصوص ، ووسمت أجواءها بميسمها , فلما يزل جرح الغربة مفتوحاً هناك ، ومازالت فلسطين حلماً هنا ، ومازال محمود درويش حاضراً بين السطور والصور .
ولم يكن مفاجئًا أن يشتمل الديوان الجديد على قصيدة عمودية موزونة مقفاة , فلجميل حمادة إنتاج لا بأس به في هذا النوع من النظم وإن لم ينشره مستقلاً عن بقية إنتاجه في الشعر الحر .. القصيدة حملت عنوان ” عروس البحر ” وأهداها صاحبها إلى طرابلس ” المدينة التي أحببتُ ” سكب فيها مزيجاً عطِراً من المشاعر والصور والاستعارات ؛ محاولاً رسم وجه المدينة التي سكنها الشاعر وسكنته منذ عقود ، وصارت جزءاً من وجدانه وذاكرته ، لا لتكون وطناً بديلاً لوطن غادره مضطراً ، بل لتكون وطناً آخرَ موازياً للوطن الذي استحال الاتصال به.