نتناول في هذه القراءة السريعة كتاب ( أصحاب المغيب ) للكاتب والقاص الليبي سالم الهنداوي وقد جاء الكتاب في 155 صفحة من القطع المتوسط والذي صدر بالقاهرة عام 2015 عن مجلة المستقل.. وتضمن الكتاب اثنان وثلاثون عنوانا كتبت خلال عشرون عاما تقريبا من الفترة من 1988 وحتى 2009 م .. هذا النصوص التي تقع في منطقة وسطى بين القصة والمقالة تميزت بروح سرد عالية ولغة شاعرية متوهجة تميزت بها كتابات سالم الهنداوي ..
في كتاب أصحاب المغيب يستدعي سالم الهندواي أماكن وشخوص ومواقف من ذاكرة مشبعة بالحنين .. حيث دوّن الهنداوي في نصوصه أحاسيس ومشاعر وروئ متعددة اجتاحت روحه في زمنها وحين نقرأها الآن نحسّ أن هذه الأحاسيس والمشاعر لا زالت تحتفظ بطزاجتها ..ولعل مرد ذلك إلى الأسلوب الرشيق في الكتابة الذي سطرّ به الهنداوي نصوص الكتاب .
يقول الهنداوي في بداية كتابه تحت عنوان (عودة الزورق الغريب ) صفحة 8 “ عندما عدت مصحوبا بالرؤى وحدي ، كانت مدينة البيضاء في ضباب تلك الليلة تذكرني بالعواصم التى أضاءت مصابيحها في إنتظار الغرباء وقد عادوا لتوهم من البحر . غير أن الليل الذي تبدل إلى قمصان شفيفة برائحة تلك الأسفار ، جعلني بين البوم الصور أطالع الذكريات بين وجوه بعيدة ، ترحل في الليل إلى السّهاد من شدة التعب . تعبرني في التعب بتلك الضحكات . تختارني من دون الأصدقاء للفوز بها على مشارف الصباح ، حيث يعتريني البرد وقد خرجت مليئا بتلك الصور .. وبتلك الذكريات ..! “.
يتجول سالم الهنداوي في صفحات كتابه بين العديد من الدول والمدن والعواصم فتارة نجده في قبرص يعمل كصحفي في مع مجموعة من الأدباء اللبنانيين والعرب .. يقول الهنداوي “ كانت قبرص أثناء الأحداث في لبنان وفلسطين محطتنا الاكيدة وفضاءنا الممكن الذي أنشأنا منه أولى إصدارات صحافة المهجر التي أرست دعائم لغة جديدة في الصحافة العربية ، خاطبت بوعيها التنويري عقل المستفهم الذي كاد يفقد حريته وراء صحافة مؤسسات النظام العربي التي خابت وخسرت الرهان أثناء تلك المرحلة المهمة من تاريخ النضال العربي وسقطت أمام الأعداد الأولى لصحف ومجلات السؤال العربي . فكان المكان القبرصي بمعناه الاستثنائي في ذلك الزمن هو العلامة الفارقة في حياتنا الثقافية والصحفية “ ص 137 .
وتارة يكون في القاهرة يعاني صعوبات الكتابة فيها عندما تضيء ليلها للعاشقين والحالمين .. ونجده في المغرب يتناقش حول ذاكرة المكان في الرواية العربية وأهمية المدن العربية القديمة ، مدن الروائح المشتهاة التي تشب فيها الذاكرة والفوضى الأولى مع المحسوس وهي التي تشكّل ذاكرتنا وشهدت نمو الشخصية العربية الشعبية بحالات جوعها وفقرها .
أما دمشق فيطل عليك من كتابات الهنداوي في هذا الكتاب جبل قاسيون وسوق الحميدية ويستذكر الهنداوي علاقته الوطيدة بالشاعر الكبير ( محمد الماغوط ) وخلافه مع دريد لحام والذي بسببه توقف ما يعرف بالمسرح السياسي ويتحدث الهنداوي في كتابه عن الماغوط قائلا : “ لقد أصبح الماغوط الذي كانت أوراقه تترع بالكثير من الهوامش السياسية ، هي ذخيرته الحيّة التي كان يطلقها بلا منازع ـ حريصا على خطواته وحريصا على قلمه ونوتة أوراقه لا يعيد كتابة مقالته وإنما يتأخر في كتابتها . لا يكتب سوى الكلمة التي تخرج من رؤيته ولاتعود . تبوح العبارة عنده بأسرارها الواثقة كقصيدة ، وكأنه ينهل من ينابيع خلت من الماء ومن الوافدين إليها ، يحفر في أرض لايراها أحد سواه ، بعينين تلمعان في بريق الرؤية ، كأنه صقر الكلام الذي لا يشيخ وإن كثرت مواسم الصيد في الصحافة العربية “ص25 .
ومثلما خصص صفحات طويلة للحديث عن الماغوط فقد خص في كتابه مقالا خاصا بعنوان ( محمود درويش .. من منفى إلى منفى تعود ) خصصه لرثاء صديقه الشاعر محمود درويش بلغة شعرية عالية مستحضرا كتابات الشاعر ومستدعيا علاقتهما معا .
ضمن ترحال الكاتب يمر بنا في محطات سريعة على روما وبودابست ووارسو مستذكرا حالات من الحنين والوجد وقصص الحب القديمة .
أما بيروت فقد كان لها الحضور الاكبر في كتاب أصحاب المغيب حيث ظهرت كعنوان لمجموعة من المقالات مثل ( توقيت بيروت ـ بيروت المساء ـ رصيف بيروت : تكريس الديمقراطية في المقهى السياسي ـ بيروت .. ضاحية الشمال والجنوب ـ بيروت آخر الليل ) وفي اغلب هذه العناوين يعود بنا الكاتب الى اجواء بيروت في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية وعودة الحياة إلي مقاهيها وحاناتها وشوارعها واحتفاء اللبنانيون بالحياة وتمسكهم بها رغم استمرار عادة إغلاق المقاهي مع الغروب تأثرا بأجواء الحرب .. ويتجول الكاتب في شوارع بيروت ومعالمها من شارع الحمرا إلي الروشة والروضة وجونيا ويستحضر أصدقاءه من الكتّاب والفنانين والرسامين ليس بأسمائهم فقط ولكن بأرواحهم أيضا وضحكاتهم يقول الكاتب: “ فأثناء الحرب أنتصر اللبنانيون على جراحهم بالسعادة مع الأمل في بيروت الظلام التي كانت تضئ مع القصف العشوائي ، وبنهاية الحرب رمم اللبنانيون بيتهم بالكثير من الأمل ، فكان التفاؤل دائما يسبقهم إلى صورة لبنان النموذجية وسط اليأس العربي الضارب في الأعماق ، وكان الأجمل في عقلية اللبناني بمحيطه العربي ، أنه يدرك الأزمة وظروفها ولا يراهن على المستحيل . فتكفيه قضية واحدة هي وجوده في المكان وتأكيده على حريته في محيطه .” ص122 .
وفي ظل هذا كله يظهر في مقالات الكاتب اهتمامه بالقضية الفلسطينية وبأزمة الأمة العربية ونكساتها المستمرة والتردّي في حال الثقافة العربية حيث يقول : “ هذه الأمة الخؤون التي ضحكت علينا وقالت أن ثمة حرب ستقتلنا ، وأن الغد أسود علينا وأن الحب بيننا مستحيل ، وأننا لن نلتقي كي نناقش ونفتّش عن حاجتنا في المقهى أو السينما أو في الحدائق العامة مادامت اسرائيل تشغل الضفاف الفلسطينية ومادامت أمريكا تقيم بيننا وتلقي بحذائها صوب الجغرافيا البليدة .” ص 66 .
ورغم هذا يظل الكاتب يراود حلمه بأن يلتقي حبيبته في عالم تختفي فيه كل هذه الأزمات “ فأي شوق يبعثه في هذا اللقاء وقد انتهت بالمرة مشكلة فلسطين ، ومشكلة الإيدز ، ومشكلة الضغط العربي المتأصّل . فالإنسان قعيد هذه الجغرافيا البليدة ، لا يملك غير الحلم .. الحلم بطقس جديد غير ملوث بنشرات الأخبار المرئية والمسموعة ، الحلم بطقس جديد فيه النشرات تستهل بأسعار الورود وبأسعار كتب الأشعار والروايات ، وبأسعار التفاح . طقس جديد للورد والعصافير وإعلانات الأطفال .” ص68 .
لازال الكتاب يزخر بمواضيع آخرى عديدة تستحق القراءة منها كتابات هي أحاديث من النفس للنفس ، ولحظات خاصة للكاتب مع هواجسه وأحزانه، وذكريات من طفولته وحياته بها الكثير من الشفافية والبوح الجميل ..
والكتاب بمجمله احتفاء بالصداقة والحب ، وخاصة هذه الصداقة والحب الذي يجمع أصحاب القلم وأصحاب الهم الواحد ، ويؤكد أن هذا الوجع هو الذي يجمعنا وأن رفقاء الحرف هم رفقاء في السلاح ..
ولعل اختيار الكاتب لعنوان ( أصحاب المغيب ـ كتابات في الغربة ) كان يقصد به أن مغيب الأصحاب الذين شاركوك هم الكتابة أو غيابهم بسبب ظروف عديدة و مختلفة يضعك في غربة من نوع آخر وهي غربة الكتابة في غيابهم..
سالم العالم