منصة الصباح

ترجمات

ترجمة : عبد السلام الغرياني

يُعتبر ليو تولستوي في الغرب ، على نطاق واسع أعظم كاتب عل مر العصور ، بمناسبة مائة عام على رحيله أُنتج فيلم عن حياته ( المحطة الأخيرة).

في 20 نوفمبر 2010 غادر الروائي العظيم إقطاعيته خارج موسكو ليموت بعد ثلاثة أسابيع في محطة صغيرة للقطارات في مشهد درامي محزن.

احتفل العالم بهذه الذكرى ، في ألمانيا و الولايات المتحدة صدرت طبعات جديدة لرواية ( آنا كارينينا)، في كوبا و المكسيك اُحتفي به في معارض الكتاب ، و أُطلق فيلم وثائقي من الأرشيف و المحفوظات الروسية ، بالأبيض و الأسود لمشاهد سُجلت في حينها لتولستوي تـُظهره وهو المسن يداعب حصانه و لقطات أخرى تـُسجل جانبا من حياته اليومية.

فيلم(المحطة الأخيرة) دراما جديدة حول الأيام الأخيرة لتولستوي ، بطولة هيلين ميرين ، و كرستوفر بلامر ، و جيمس مكآفي ، هذا الفيلم السينمائي الرائع يروي أحداث العامين الأخيرين من حياته ، محاطا من قبل المصورين المنتشرين حول مزرعته الضخمة بينما الكونت تولستوي يتشاجر مع زوجته صوفيا اندرييفا حول حقوقه الأدبية في مؤلفاته التي قرر وهبها للإنسانية ، صوفيا تريد الحقوق ،و تولستوي تعب من النزاعات الزوجية ، هرب تاركا كل شيء ثم مرض حتى مات في رحلة قطار متجه جنوبا.

الشخصية المحورية في الفيلم هو السكرتير الشاب و يدعى فالنتاين بولغاكوف (يجسد دوره الممثل مكآفي) حيث نشاهد تولستوي مع مساعده خلال السنوات التي قضاها معه ، كيف أنه تخلى عن آية ملكية أو متعا جسدية. ولكن تعهد سكرتيره بمجاراته في تعففه كان، كما هو متوقع، وجيز الامد بعد أن تأتي ماشا الفاتنة التي تعيش في إقطاعية تولستوي لتحرير بولغاكوف الشاب من عفته.

يلاحظ الناقد لوك هاردنغ الأداء المتميز لأبطال الدراما الثلاثة ميرين وبلمر وماكفوي وذكاء السيناريو على نحو ممتع، بحسب وصفه. فعندما تسأل زوجة تولستوي سكرتيره الشاب كم مرة قرأ رواية «الحرب والسلام» يجيب بولغاكوف متلعثما «عدة مرات»، وبعد تردد يعترف قائلا «مرتين فقط».

مخرج الفيلم هو الأمريكي مايكل هوفمان الذي أراد تصوير ( المحطة الأخيرة) في ياسنايا بوليانا مكان إقطاعية تولستوي قرب تولا ،125 ميلا جنوب موسكو ، لكن بعد دراسة دقيقة مع المنتج اندريا ديريابين تبين أن الفيلم لن يكون بالسهولة المتوقعة ماديا و معنويا .

وقال اندريه دريابين الذي شارك في إنتاج الفيلم أن الرغبة كانت قوية في تصوير الفيلم في روسيا «ولكن لم تكن هناك مرافق صحية صالحة ولا بنية تحتية. كانت الفنادق مقرفة. ولم تكن هناك آي ضمانات أمنية للممثلين.

هوفمان المخرج سلط الأضواء على صوفيا كونها الجزء الأعظم من قصة حياة هذا العبقري ، فقد عاشت معه 48 سنة وولدت له ثلاثة عشر طفلا ، وقد اعتمد الفيلم في قصته على اليوميات التي احتفظ بها كل من تولستوي وصوفيا وعلى رواياته خاصة « الحرب والسلام « ولكي نعيش أجواء الفيلم وكأننا في رحلة مع تولستوي ندخل العام 1910 ونقترب من حديقة منزله الواسعة ونستمع لإحدى المعزوفات الروسية المحببة إليه على فونغرافه الموجود في الحديقة ذاتها. في المحطة الأخيرة يسلط المخرج الأضواء على جزء من حياة الشاب تولستوي وكيف انه قبل زواجه من صوفيا عرف طريق الزنا الذي مر عليه في يومياته ، إلا انه ينتقل إلى مشهد آخر أكثر حساسية وهو مشهد صوفيا التي تريد من زوجها العودة إلى فراشه وهي إشارة ذكية لما تعانيه من حرمان بعد أن كان زوجها رجل الشهوات فترتدي ملابس بيضاء مثل أي عروس وتترك شعرها ينام على كتفيها لكنها فجأة تنقلب إلى حيوان يعوى لأن زوجها لا يلبي لها تلك العازمة الحسية فتصبح مثل خرقة دمية في أتون عاصفة هوجاء ، هنا ينقلنا المخرج إلى شيء أشبه بالجنون والغيرة لكننا  و نحن المشاهدين نحاول إن نعطيها بعض الحق فيما هي به من حرمان .

بلامر الذي جسد تولستوي الثمانيني بذل جهدا واضحا وهو يبدو في سن الشيخوخة خاصة في مشهد المفاضلة بين أن يختار زوجته أو أتباعه ، الا أن سيناريو الفيلم يعطي في النهاية قوة الحب التي يشعر بها تولستوي تجاه الجميع وهو منطق فلسفي عانت منه صوفيا كثيرا ، فالمرأة تريد أن يمنحها الحب كاملا وغير منحاز ، لكنه بدأ بشكل مغاير حيث جعل من أندادها الفقراء والخدم  منافسين لها فعاشت كل هذه الثورة والهيجان حتى كانت النهاية المأساوية حيث نرى تولستوي يبتعد بجسمه المتعب ناحية سكة الحديد التي له فيها دارة قديمة متهالكة فيسقط أمام نافذتها وهو يرنو بنظره صوب المزرعة الكبيرة التي شهدت مجده وإسقاطاته ، انه تعبير قد يقودنا إلى الشفقة لكنه لا ينتقص من عظمة تولستوي .

إذا كان داستيوفسكي ركـّز اهتمامه على الجانب المظلم من الروح البشرية و مشاكلها المؤلمة ، فان تولستوي كان النقيض تماما ، حيث تناول قضايا أكثر تفاؤلا مثل الحب و الصداقة و العلاقات الأسرية و التضحية ، انه يقدم الأجوبة المضيئة للتساؤلات الإنسانية و في هذا المعني ، يعطي الأمل بدل الألم . ليس مستغربا تقاطر الجموع على مزرعته ، و زيارة شخصيات عالمية له ذلك الوقت للحديث معه و الاستفادة من آراءه الإنسانية و إقبال مئات الآلاف من القراء حول العالم على أعماله العبقرية التي أحدثت أثرا ايجابيا في نفوسهم.

من محطة كوزلوفا زاسيكا ، تأخذك حافلة قديمة إلى بيت تولستوي ، كل شيء كما كان عليه في زمنه ، المقعد الجلدي الأسود الطويل حيث كان الكاتب و أبنائه الثلاثة عشر يدورون حوله ، و الكرسي الذي كان يجلس عليه للكتابة ، و المكتبة الضخمة ، و صور زيتية مثبتة علي الجدران ، وفي الغابة حيث قبره دون شاهدة .

عموما ، يـُعتبر تولستوي في الغرب أعظم روائي ، منذ سنوات  وضعت مجلة نيوزويك رواية الحرب و السلام على رأس أفضل مائة رواية ( رواية 1984 لجورج ارويل في المرتبة الثانية ، رواية يوليسز لجيمس جويس في المرتبة الثالثة ). ناقش النقاد التحليل النفسي لشخصيات تولستوي الروائية ، و قال محاربون قدماء أنه ليس ثمة كاتبا كتب عن المعارك أفضل من تولستوي . في الشرق و خاصة اليابان ثمة تقديس لفلسفة تولستوي و على مستوى العالم هناك طفرة هائلة لأعماله و شخصه . فهو المحترم و المبجل في كل مكان سواء لكتاباته أو لشخصه و سيرته.

وفي قرية مجاورة، لم تزل قائمة حتى اليوم، حاول تولستوي تعليم أطفال الفلاحين في عام 1860. فلاديمير تولستوي، حفيد الروائي الكبير، يعترف بأن «لجده سمعة أكبر في الغرب مما هي عليه في روسيا، ويرجع ذلك إلي الاضطرابات السياسية في روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، والتركيز علي الفنون البصرية المعاصرة، بدلا من أن الكتب الفكرية والثقافية، إضافة إلي انحسار قراءة الكتب مقارنة مع الحقبة الشيوعية».

يتفق الحفيد مع القول بأن القرن العشرين كان قرنا مؤلما متوازيا مع نغمة داستيوفسكي و يأمل في أن يكون هذا القرن متوازيا مع نغمة تولستوي.

المؤسسات الرسمية الروسية، وفي مقدمتها الكرملين، لا تبدي اهتماما يذكر في روسيا بالروائي الأكثر شهرة. إن موقف تولستوي من السلطة الدينية الأرثوذكسية جعل منه شخصية خطيرة علي من هم في السلطة عموما، سواء في روسيا القيصرية، أو سلطة اليوم أيضا، مما أبقي علي تولستوي في القائمة السوداء!

عدد السياح الذين يزورون ياسنايا بوليانا ازداد خلال السنوات الماضية و ثمة إقبال متزايد على مذكرات صوفيا زوجة تولستوي التي نسخت أعماله مرة بعد مرة.

الحفيد فرح جدا بالفيلم الذي ضم عددا من الممثلين الانجليز عدا بلومر فهو كندي ، ابنة فلاديمير آنا ستازيا ـ تدرس حاليا في جامعة اكسفورد ـ استعان بها هوفمان لوجهها الروسي و علاقتها الأسرية بالكاتب.

إما عن تولستوي نفسه نجد الكثير مما هو شخصي اذا دققنا في فلسفته عبر كتاباته كلها

بصفته فيلسوفا أخلاقيا  اعتنق أفكار المقاومة السلمية النابذة للعنف وتبلور ذلك في كتاب (مملكة الرب بداخلك) وهو العمل الذي أثر على مشاهير القرن العشرين مثل المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينج في نهجهما الذي اتسم بسياسة المقاومة السلمية النابذة للعنف.

التحق بجامعة كازان عام 1844م، ولكن طريقة التدريس لم تعجبه فهجرها إلى الأعمال الحرة عام 1847م. وبدأ بتثقيف نفسه، وشرع في الكتابة. في تلك المرحلة الأولى من حياته كتب ثلاثة كتب وهي (الطفولة) 1852 (الصبا) 1854 (الشباب) 1857.
سئم حياته تلك فالتحق بالجيش الذي كان في حرب القوقاز وشارك في بعض المعارك ضد جيش المريدين بقيادة الإمام شامل. لكنه أحب القوقاز وأثرت فيه حياة شعوب القوقاز وكتب عن تجاربه تلك موضوعات نُشرت في الصحف، وألَّف عنها كتابه (القوزاك) 1863 الذي يحتوي على عدة قصص.
وبعد تقاعده من الخدمة العسكرية سافر إلى أوروبا الغربية وأعجب بطرق التدريس هناك. ولما عاد لمسقط رأسه بدأ في تطبيق النظريات التربوية التقدمية التي عرفها، وذلك بأن فتح مدرسة خاصة لأبناء المزارعين. وأنشأ مجلة تربوية تدعى ياسنايا بوليانا شرح فيها أفكاره التربوية ونشرها بين الناس ويُعد كتاب (الحرب والسلام) 1869 من أشهر أعمال تولستوي، ويتناول هذا الكتاب مراحل الحياة المختلفة، كما يصف الحوادث السياسية والعسكرية التي حدثت في أوروبا في الفترة ما بين 1805 و1820. وتناول فيها غزو نابليون لروسيا عام 1812.

ومن أشهر كتبه أيضًا (أنا كارنينا) الذي عالج فيه قضايا اجتماعية وأخلاقية وفلسفية في شكل مأساة غرامية كانت بطلتها هي أنَّا كارنينا.
ومن كتب تولستوي أيضًا كتاب (ما الفن؟). أوضح فيه أن الفن ينبغي أن يُوجِّه الناس أخلاقيًا، وأن يعمل على تحسين أوضاعهم، ولابد أن يكون الفن بسيطًا يخاطب عامة الناس
وقد تعمق تولستوي في القراءات الدينية، وقاوم الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا، ودعا للسلام وعدم الاستغلال، وعارض القوة والعنف في شتى صورهما. ولم تقبل الكنيسة آراء تولستوي التي انتشرت في سرعة كبيرة، فكفّرته وأبعدته عنها. وأُعجب بآرائه عدد كبير من الناس وكانوا يزورونه في مقره بعد أن عاش حياة المزارعين البسطاء تاركًا عائلته الثرية المترفة.
وفي أواخر حياته عاد تولستوي لكتابة القصص الخيالية فكتب (موت إيفان إيلييتش) 1886م، كما كتب بعض الأعمال المسرحية مثل (قوة الظلام) 1888. وأشهر أعماله التي كتبها في أواخر حياته كانت (البعث) وهي قصة كتبها 1899م وتليها في الشهرة قصة (الشيطان) 1889، كريوتزسوناتا 1891، (الحاج مراد) التي نُشرت بعد وفاته والتي توضح عمق معرفته بعلم النفس، ومهارته في الكتابة الأدبية. ومدى حبه ومعرفته بالقوقاز وقد اتصفت كل أعماله بالجدية والعمق وبالطرافة والجمال.
يسأل تولستوى ويفكر في مسألة الموت : لماذا نموت ؟ ولماذا نخاف الموت؟ وله قصة باسم « ثلاث موتات « يقارن فيها بين موت سيدة ثرية وموت فلاح بسيط وموت شجرة ، يخلص منها أنه كلما زاد وعينا انفصلنا عن الطبيعة والمجموعة البشرية ونحن نتألم لهذا الوعي وهذا الانفصال عند الموت.
لا يؤمن تولستوى بالغيبيات التي تلي الموت وينظر إلى الموت على أنه العدم للإنسان وأنه نهائي.
مادامت الحياة تنتهي بالموت انتهاء تاما ، فيجب لذلك أن نحيا حياتنا بأقصى وأعمق ما نستطيع وأن نجعل الدنيا نعيما لأبناء البشر ونتحمل وحدنا المسئولية بدلا من إلقاءها على قوات غيبية.

إن الإنسانية في تاريخها الحافل بالمآسي قلما نجد شخصا يمتص كل هذا الألم و اللامعقول حتى يدفع بالناس إلى الإمام متحدين ظروفهم القاسية ليكون لهم اتزان في وجود متأرجح.

شاهد أيضاً

جامعة الزيتونة تستعرض خارطة طريق تأهيلها للتصنيف الدولي 

  عرض مجلس جامعة الزيتونة في اجتماعه الذي عقده صباح اليوم الثلاثاء 19 نوفمبر خارطة …