دفق
بقلم /سعاد الوحيدي
كان من المقرر أن يدور السيمنار الأسبوعي (بمركز دراسات الشرق المعاصر/ جامعة السربون)، الذي يترأسه البرفسور برهان غليون، حول آفاق العلاقات المستقبلية/ “المعولمة”، للأقليات المسلمة بالشرق الأقصى، مع الشرق الأوسط. لكن الثورة في تونس سبقتنا…ورحل “بن علي” بسرعة، الحدث الذي خلق حراكاً “تسنامياً” فاجأ كافة الإستراتجيات. وأذكر أن غليون يومها وظف في مستهل الجلسة، والتي صار محورها “الثورة التونسية”، جملة علقت بذهني: “كيف سنسمي هذا الشعب؟”. لأن الكلمات بدأت عاجزة عن رسم مشاعر الإكبار والفخر، بذلك الحراك الثائر في تونس. ولم نكن ندري بأنه بعد هنيهة سينتفض الشعب السوري كذلك، والمصري، والليبي واليمني… وسيصبح غليون أول رئيس “للمجلس الوطني” لسوريا الثورة. وسألتحق بالثورة في ليبيا…وأننا لن نلتقي مرة أخرى بنفس الذوات، ولا الصفات. وأن عصراً عربياً جديداً يطّل على الافق، رغم الوجع والخيبات.
في كتابه “عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل”، يقدم غليون رصداً لأسباب هذه الخيبات بالذات، وما/أو من أجهض المخاض العسير الذي كانت تنتظره الأمة؟ وحيث يحفر عن جذور الأزمة في شجاعة إستثنائية. ورغم إن مقصد الكتاب كان الثورة السورية، غير أنه يسهل تفصيله على وقائع تعثر ثورة فبراير. ويكفي تغيير اسماء الأماكن والأشخاص، ليبدو وكأنه يتحدث عن الثورة التي لم تكتمل في ليبيا.
السبب الأهم الذي يعيد إليه “برهان غليون” فشل إكتمال الثورة السورية، (وهو بذاته مُصاب ثورة فبراير)، هو عدم توفر “قيادة فعلية”، قابلة لأن تتوحد حول مشروع وطني. والثاني المهم، ضمن أسباب أخرى، هو التدخل الخارجي على الأرض/وفي القضايا الوطنية. سواء الروسي/ أو الإيراني وحزب الله اللبناني الداعمين لحكم الأسد الشيعي. التدخل، والذي وإن لم يحدث مع الثورة الليبية في البداية، لكنه يتهددنا الآن، وبشكل مأساوي. وحول هذين السببين ستكون مقاربة هذا المقال.
عن القيادة يوضح “غليون”: “ولا أقصد بالقيادة هنا شخصية قيادية، وإنما نخبة سياسية متفاهمة ومتكاملة ومتعاونة لتحقيق أهداف الشعب أولاً. وتوحيد صفوف المعارضة وصفوفه معاً، ومدركة للمسؤولية التاريخية التي تقع عليها”. ورغم نجاح الثورة في ليبيا في تغيير النظام، دون قيادة موحدة، لكن التاريخ أثبت صحة فكرة “غليون” حول النتائج الكارثية لهذا العيب الأستراتجي. وذلك من حيث المآل الذي صارت إليه الأمور في ليبيا، وقد حُرف ذلك المعراج النقي نحو الحرية عن مساره، وباتت الأمور تُنبي بفشل نهائي لمشروع الثورة، (في حالة عجزنا عن تصحيح المسار). بما يعيدنا الى مقصد “برهان غليون” بشأن فداحة نتائج الفشل في توحيد صف القيادة، حول مشروع جامع. بل يأتي النموذج الليبي ليعطي لهذه الفكرة دليلاً عملياً، يُعري تداعيات هذا العطب.
كما يُعيدنا ما يجري على أرضنا الآونة، للفكرة الثانية بخصوص التدخل الأجنبي. التحليل الذي يبرز هنا، في هذا الوقت الليبي العصيب، كناقوس خطر يحذر من الانزلاق لذات الكارثة السورية. فكتاب “عطب الذات”، يوضح كيف تدحرجت سوريا نحو الجحيم، عندما تكاثرت/ وتقاطعت على أرضها قوى لم تكن بحسبان الثائرين، حيث: “ما كان لدى المنتفضين والمعارضين السوريين أي إمكانية لتوقع تقاطع هذه الحروب على أرضهم، وتقاطعها مع حروب النظام، للحفاظ على بقائه قبل أن ينخرطوا في الثورة، ولم يكن في استطاعتهم وقفها بعد اندلاعها، أو الحيلولة دون استمرارها، بعد ذلك. هذه ديناميات تاريخية وجيواستراتيجية لا يمكن لعباقرة التحليل السياسي والاستراتيجي توقعها”.
مع ذلك، ورغم عصف كل الخيبات، سيبقى في إمكان “عبقرية” واحدة، انقاد ليبيا، وسوريا ..، أنها عبقرية القلب. وعشق وطن لا تُستباح منه ذرة رمل.