منصة الصباح

2017

زكريا العنقودي

في ذلك العام وتلك الأيام، وفي كل صباح بعد أن أوصل الأولاد للمدرسة وهرباً من عزلتي لأكثر من ثلاث سنوات قبلها، التي قررت أن أكسر أنفها، كنت أذهب وصديقي (خالد الإدريسي) لنجلس بمقهى بالمدينة القديمة يقع تحت سور مدرسة (أحمد قنابة)؛ لنترافق هناك مع أصدقاء من الماضي الجميل نتحدث في كل شيء إلا السياسة.
في مجمعنا ذاك كان يأتي مع أحد أصدقائنا رفيق له دائم الابتسام اسمه (رياض)، لم يكن بيني وبينه ما يجمعنا من ذكريات، لكننا صنعنا بعضها أثناء تبادلنا الحديث معاً رفقة ما تناولناه من سجائر و أكواب القهوة بذلك المكان العبق بعطر الماضي، محاطين بأقواس طرابلس وبيوتها القديمة.

في المرات الأخيرة كان رياض يختار أن يسحب كرسيه إلى جواري وكأنه يعرفني منذ ألف عام، تحدثنا عن رفاق بيننا من أكثر من عقدين رغم كوننا لم نعرف بعضنا حينها، حدثني أنه رغم ماحدث ويحدث له من مواجع له رغبة شديدة في الحياة، فهو على أبواب الخمسين ولم يتزوج بعد، وقد قرر هذه المرة أن الزواج مشروعه القادم، وأضاف فرحاً حين استشعر لمحة التشجيع بعيني: نعم، قررت ذلك وقد أخبرت والدتي برغبتي هذه ووعدتني خيراً.
استمر لقاؤنا الطرابلسي الجميل لأيام، لكني وفي آخر يوم لامتحان صغيري وبعد أن أوصلته للمدرسة عدت لالتقي بخالد كي نمضي معاً وكما العادة لذلك الهروب الجميل الذي أحببته، وتلك الجلسة بالقلب العتيق لمدينتي.
كان خالد في غير حالته ويشيح بوجهه بعيداً عني، وعندما أصررت عليه مستفهماً عن سر قلقه نصحني أن أؤجّل الذهاب إلى ذلك المقهى هذه الأيام.
استغربت لهجته وإصراره على

تغيير الحديث، لكننا بطرابلس وكأن قلوبنا تعودت على طعنات الفقد فماتت أحاسيسها. كررت ضغطي عليه ليتكلم فقلبي أخبرني أن ثمة أمراً جللا. لم يتركني خالد لحيرتي طويلا، كما أنه لم يطل عليّ في الشرح فسكب كأس اللوعة مباشرة بحلقي قائلاً:

ماحدث باختصار يا زكريا أن أم رياض أفاقت باكراً هذا الصباح فوجدته يتأرجح من سلم البيت معلقا من عنقه بحبل! (رحمه الله وغفر له). قال خالد هذا وتركني بعد أن سحب مني عظام ركبتّي اللتين أقف عليهما ومضى هارباً لحال أكيد أنه ليس سبيله.
بدوري بالكاد تمالكت نفسي عائداً للبيت، لكني عكس خالد فقد كنت هاربا لحال سبيلي.
عدت لعزلتي من جديد وأقفلت باب البيت .

كان الأولاد قد غادروا لجدّتهم صحبة والدتهم بعد عودتهم من المدرسة، فأخذت أدور كمجنون تأخذني غرفة تلفظني أخرى.. تارة أضع موسيقاي الصاخبة بأذني ثم أرمي السمّاعات وأرفع صوت المرسكاوي من جهاز التسجيل، ثم ألوذ بالشيخ الصديق المنشاوي لأستعيد تركيزي فأجدني من فرط دموعي أكاد أفقده هو الآخر، فأقفل جهاز التسجيل قبل أن ينتابني الجنون.

ثم أذهب أبعد في العزلة فأقفل على نفسي باب غرفتي (رغم كوني وحيدا بالبيت)، أسحب قلم الرصاص من حقيبة الأولاد لأكتب وهذه المّرة (ليس بالكيبورد) بل على الورق ما لم أفهمه أبداً حين قرأته في الصباح التالي، فقط فهمت السطر الأخير:
(أيتها الذئبة، خذيني من فمي بدات أتعب).*

* مابين القوسين بالسطر الأخير مقتطف من نص للشاعر الكبير (مفتاح العماري)، فشكرا مفتاح إذ حتى في لوعة الفقد أجدك تهون عليّ.

شاهد أيضاً

زيادة الوزن وطريق الموت

مع شاهي العصر: توجد دولة في جنوب أمريكا اسمها بوليڤيا بها شارع يعد أخطر شارع …