منصة الصباح

‮«‬ديوان‮»‬‭ ‬إبراهيم‭ ‬الكوني

دفق
بقلم /سعاد‭ ‬الوحيدي

أدين‭ ‬إبراهيم‭ ‬الكوني‭ ‬بحياتي،‭ ‬وقد‭ ‬غالب‭ ‬موتاً‭ ‬كان‭ ‬يغالبني‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬بائسة‭ ‬من‭ ‬وجودي‭. ‬وأدين‭ ‬له‭ ‬بتواصل‭ ‬عقل‭ ‬مع‭ ‬عقل‭ ‬طيلة‭ ‬فترة‭ ‬إغترابي‭. ‬
وقد‭ ‬كان‭ ‬الرابط‭ ‬الدافق،‭ ‬الأهم،‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬فتىء‭ ‬يجدّر‭ ‬الوطن‭ ‬بداخلي‭.‬
وذلك‭ ‬رغم‭ ‬نذرة‭ ‬لقاءاتنا،‭ ‬وقد‭ ‬فرقت‭ ‬بيننا،‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬ذاتها،‭ ‬مسافات‭ ‬فاصلة‭. ‬هذه‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تجرؤ‭ ‬على‭ ‬قطع‭ ‬حديث،‭ ‬إن‭ ‬بدأناه‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬نلتقط‭ ‬طرفه‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع،‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬شهر‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬سنة،‭ ‬وكأننا‭ ‬لم‭ ‬ننهه‭ ‬البته‭. ‬
‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬لحالة‭ ‬مفزعة‭ ‬من‭ ‬الحنين‭ ‬للوطن‭ ‬مع‭ ‬العام‭ ‬الثلاثين‭ ‬للتيه‭. ‬
ضراوة‭ ‬الوجع‭ ‬كانت‭ ‬تؤذن‭ ‬بفناء‭ ‬وشيك‭ ‬لجسد‭ ‬أذبلته‭ ‬الغربة‭. ‬
وكنت‭ ‬أتصور‭ ‬ان‭ ‬ما‭ ‬أصاب‭ ‬المهاجرين‭ ‬الروس‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬قبلي،‭ ‬من‭ ‬وجع‭ ‬أدمى‭ ‬حبر‭ ‬إبداعهم،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬عليهم،‭ ‬سيكون‭ ‬ذاته‭ ‬مصيري‭. (‬نحث‭ ‬هؤلاء‭ ‬مفردة‭ ‬النوستلجيا‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬عصف‭ ‬الشوق‭ ‬للوطن،‭ ‬وكانوا‭ ‬يتساقطون‭ ‬كرطب‭ ‬النخل،‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬باريس‭ ‬قتلى‭ ‬ذاك‭ ‬الحنين‭). ‬
لقد‭ ‬تعلمت‭ ‬من‭ ‬ابناء‭ ‬بترسبورغ‭ ‬أن‭ ‬الموت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوطن‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬حنينا‭ ‬ووجعاً‭ ‬وعاطفة‭ ‬تمزق‭ ‬القلب‭. ‬
وبدأت‭ ‬أقبل‭ ‬بهذا‭ ‬القدر‭ ‬المجبول‭ ‬من‭ ‬يأس‭…‬كان‭ ‬جسدي‭ ‬يخذلني،‭ ‬وقد‭ ‬أخذ‭ ‬ينفك‭ ‬عني‭ ‬غير‭ ‬متمهل،‭ ‬حتى‭ ‬غذوت‭ ‬كهيكل‭ ‬من‭ ‬عظم‭ ‬عافته‭ ‬المقابر،‭ ‬فأستمر‭ ‬يمشي‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬شبحاً،‭ ‬والروح‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭.‬
أدرك‭ ‬إبراهيم‭ ‬الكوني‭ ‬فداحة‭ ‬هذا‭ ‬الفقد‭ ‬الذي‭ ‬ينخر‭ ‬عظامي،‭ ‬وكان‭ ‬يطّل‭ ‬عليّ‭ ‬بالهاتف،‭ ‬وزوجته‭ ‬الجميلة،‭  ‬ليمنع‭ ‬ذاك‭ ‬التآمر‭ ‬من‭ ‬الروح‭ ‬على‭ ‬الجسد‭. ‬
تعلق‭ ‬رأسي‭ ‬بصوته‭ ‬الواعد‭ ‬بموعد‭  ‬مع‭ ‬رمال‭ ‬صحراء‭ ‬بلادي،‭ ‬وهو‭ ‬يهددني‭ ‬بأخذي‭ ‬عنوة‭ ‬لكثبانها،‭ ‬لأتمرغ‭ ‬فيها،‭ ‬وأستعيد‭ ‬صلتي‭ ‬بالوجود‭.‬
وكانت‭ ‬الصحراء‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬الكوني‭ ‬كلمة‭ ‬السر‭… ‬سر‭ ‬ما‭ ‬يكتب،‭ ‬وسر‭ ‬ما‭ ‬يسكن‭ ‬رأسه،‭ ‬وسر‭ ‬ما‭ ‬يرسله‭ ‬من‭ ‬اسرار‭. ‬
وبقدر‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أعانده‭ ‬بالإبحار‭ ‬نحو‭ ‬البحر،‭ ‬وأصوات‭  ‬النوارس‭ ‬التي‭ ‬تطرز‭ ‬مخيلة‭ ‬طفولتي‭ ‬الطرابلسية،‭ ‬كان‭ ‬يكتسحني‭ ‬بما‭ ‬عنده‭ ‬من‭ ‬الصحراء‭. ‬
وحتى‭ ‬صدور‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬ديوان‭ ‬البر‭ ‬والبحر‮»‬،‭ ‬لأجده‭ ‬قد‭ ‬أحدث‭ ‬عجينة‭ ‬خرافية،‭ ‬لتمازج‭ ‬إستثنائي‭ ‬بين‭ ‬أروع‭ ‬قطبي‭ ‬الوطن؛‭ ‬بحره‭/‬وصحراءه‭. ‬وتسلل‭ ‬لأمواج‭ ‬مياه‭ ‬شماله،‭ ‬يصالحه‭ ‬مع‭ ‬كثبان‭ ‬جنوبه‭.‬
فكان‭ ‬متنه‭ ‬مخزون‭ ‬إبتهال‭ ‬لذروة‭ ‬ملتقى‭ ‬هذين‭ ‬الأثرين‭. ‬
لقد‭ ‬أسس‭ ‬الكوني‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬البر‭ ‬والبحر،‭ ‬لملحمة‭ ‬صوفية‭ ‬من‭ ‬جواهر‭ ‬‮«‬الكلم‮»‬‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬ليبيا،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يذكرها‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭. ‬
عن‭ ‬بحرها‭ ‬وبرها،‭ ‬عن‭ ‬ضفافها‭ ‬وكثبانها،‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬مسكون‭ ‬بالمجد‭ ‬والطيبة‭. ‬
وتم‭ ‬الاحتفال‭ ‬بهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬مشارق‭ ‬الارض‭ ‬ومغاربها‭ ‬كقطعة‭ ‬أدبية‭ ‬نادرة،‭ ‬وذلك‭ ‬رغم‭ ‬خلوه‭ ‬من‭ ‬السرد،‭ ‬أو‭ ‬النسيج‭ ‬الروائي‭ ‬الذي‭ ‬يطبع‭ ‬أسلوب‭ ‬الكوني‭ ‬الفلسفي‭ ‬الخلاب‭… ‬
كان‭ ‬الكتاب‭ ‬صندوق‭ ‬‮«‬حكم‮»‬،‭ ‬تأتت‭ ‬تراكيبها‭ ‬عن‭ ‬غيبوبة‭ ‬روحية‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬‮«‬مكان‮»‬،‭ ‬تسكنه‭ ‬الروح‭ ‬رغم‭ ‬غربة‭ ‬الجسد‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الآخرين‭.‬
في‭ ‬محطة‭ ‬باريس،‭ ‬وقد‭ ‬تدفق‭ ‬جمهور‭ ‬العاصمة‭ ‬المثقفة‭ ‬على‭ ‬معهد‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬ليحضر‭ ‬إبراهيم‭ ‬الكوني‭ ‬يناقش‭ ‬كتابه‭. ‬
كانت‭ ‬المفاجأة‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يسترسل‭ ‬في‭ ‬خطاب،‭ ‬أو‭ ‬نقاش‭. ‬لقد‭ ‬أكتفى‭ ‬بسرد‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬الكتاب،‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى،‭ ‬ثم‭ ‬انصرف‭.‬
‭ ‬أما‭ ‬الحوار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬دار‭ ‬على‭ ‬أشده‭ ‬بين‭ ‬أنصار‭ ‬البحر،‭  ‬وانصار‭ ‬الصحراء،‭ ‬فقد‭ ‬تم‭ ‬على‭ ‬المائدة‭ ‬التي‭ ‬نظمتها‭ ‬على‭ ‬شرفه‭ ‬إدارة‭ ‬المعهد‭. ‬
وحيث‭ ‬تكامل‭ ‬خلاله،‭ ‬كسيد‭ ‬للموقف،‭ ‬خطاب‭ ‬الكوني‭ ‬عن‭ ‬صحراء‭ ‬لا‭ ‬يمل‭ ‬من‭ ‬تمجيدها،‭ ‬وأساطيري‭ ‬عن‭ ‬بحر‭ ‬تركته‭ ‬في‭ ‬طرابلس،‭ ‬وأحمله‭ ‬وشم‭ ‬على‭ ‬القلب‭.‬
وإذ‭ ‬استذكر‭ ‬هذا،‭ ‬وأصوات‭ ‬تهديد‭ ‬بما‭ ‬قد‭ ‬يمزق‭ ‬الوطن‭.‬
لإ‭ ‬ذكر‭ ‬بمن‭ ‬نقشه‭ ‬على‭ ‬هرم‭ ‬من‭ ‬مجد،‭ ‬وجذّره‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الوجود‭… ‬كل‭ ‬آبائنا‭ ‬الأوائل‭. ‬
في‭ ‬كتاب‭ ‬البر‭ ‬والبحر‭ ‬يقول‭ ‬الكوني‭: ‬‮«‬باي‭ ‬حق‭ ‬نعطي‭ ‬أنفسنا‭ ‬حق‭ ‬امتلاك‭ ‬العالم،‭ ‬إذا‭ ‬كنّا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نمتلك‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬أنفسنا‮»‬‭/ ‬أن‭ ‬نمتلك‭ ‬ليبيانا‭ ‬في‭ ‬أنفسنا،‭ ‬وإنه‭ ‬‮«‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬اغتراب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬إنسان‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬زمان‭ ‬غير‭ ‬زمانه‮»‬،‭ ‬
وإلى‭ ‬ذواتنا‭ ‬مع‭ ‬المكان،‭ ‬يعيدنا‭ ‬بوجع‭:‬
‭-‬    يروق‭ ‬للماء‭ ‬ان‭ ‬يسترجع‭ ‬حريته‭ ‬في‭ ‬الفناء‭.‬
‭-‬    الصحراء،‭ ‬كالبحر،‭ ‬صحراء‭ ‬ببعدها‭ ‬الخفي،‭ ‬لا‭ ‬ببعدها‭ ‬الجلي‭.‬
‭-‬    البحر‭ ‬صحراء؛‭ ‬جذعها‭ ‬الغمر،‭ ‬وجذورها‭ ‬الغيب‭.‬
‭- ‬يهدر‭ ‬البحر‭ ‬غضباً،‭ ‬ويلفظ‭ ‬زبداً،‭ ‬ولكن‭ ‬البحر‭ ‬لا‭ ‬يجتاز‭ ‬حدوده،‭ ‬لأن‭ ‬البحر‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يَزَّكَّى‭ ‬غضبه‭.‬
و‭….‬
‭- ‬البحر،‭ ‬كالصحراء،‭ ‬بالحرية‭ ‬بحر،لا‭ ‬بالماء‭.‬
وأقول‭: ‬إن‭ ‬الوطن‭ ‬كالصحراء‭ ‬وكالبحر،‭ ‬بالحرية‭ ‬وطن‭. ‬بالسلام‭ ‬وطن‭. ‬
بالوحدة‭ ‬وطن‭. ‬بالمجد‭ ‬وطن،‭ ‬وليس‭ ‬بإقتتال‭ ‬أبنائه‭

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …