بقلم /سليم يونس
في إطار سياسة التعمية وتغييب الوعي، اتكأ البرهان على الدين كمسوغ سياسي للقيام بأعمال يدرك أنها تمس وجدان وثوابت الناس، فقال رئيس مجلس السيادة في السودان، عبد الفتاح البرهان: «لقد استخرت الله قبل السفر بفترة، أدعو الله في كل صلاة: (اللهم إن كان لنا في هذا الأمر خير يسره لنا، وإن لم يكن فيه خير اصرفه عنا)».
أثناء زيارة إلى العاصمة البريطانية لندن للقاء مسؤولين بريطانيين من أجل المطالبة بدعم استقلال السودان عن مصر، اجتمع الصديق المهدي، الابن الأكبر للسياسي عبد الرحمن المهدي، ونائب الأمين العام لحزب الأمة محمد أحمد عمر مع مسؤولين إسرائيليين في السفارة الإسرائيلية في لندن، في 17 يونيو 1954، واتفقا على أن يكون عُمَر رجل الاتصال الدائم بين الجانبين. وبعد فترة وجيزة من ذلك اللقاء، التقى مسؤولو حزب الأمة السوداني مع محافظ مصرف «إسرائيل» دافيد هوروفيتس في العاصمة التركية إسطنبول، من أجل بحث «فصل السودان عن أي اعتماد اقتصادي على مصر»
واستمر سعي السودان الرسمي منذ وقت مبكر لعلاقة مع كيان الاحتلال فقد عقدت وزيرة الخارجية الإسرائيلية غولدا مائير اجتماعاً رسمياً سرياً مع رئيس الوزراء السوداني عبد الله خليل في صيف 1957 في أحد فنادق باريس. فيما تقول التقارير أيضاً إن رجل الأعمال السعودي عدنان خاشقجي دعا عام 1979 خمسة مسؤولين من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى الخرطوم للقاء الرئيس السوداني جعفر النميري هم: يعقوب نمرودي ودافيد كيمحي وآل شفايمر ورحافيه فاردي وهانك غرينسبان، وذلك لبحث سبل دعمه داخلياً.
ويروي تحقيق صحافي نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” تفاصيل كثيرة عن عملية ترحيل اليهود من إثيوبيا كحلقة جديدة في مسلسل المهاجرين اليهود إلى فلسطين عام 1985، بفضل علاقات الصداقة المتينة بين جعفر النميري وبين الولايات المتحدة وإسرائيل.
ويشير التحقيق إلى أن النميري وافق قبل سنة من الإطاحة به على طلب الموساد بالسماح بمرور آلاف اليهود الفلاشا والإقامة داخل معسكر لاجئين أقامته «إسرائيل» على الحدود بين السودان وبين إثيوبيا، قبل نقلهم إلى الخرطوم ومنها إلى تل أبيب عبر مطارات أوروبية.. وكان النميري قد التقى وزير الأمن الإسرائيليّ، إريك شارون، في كينيا في الـ13 من شهر أيّار (مايو) من العام 1982،
وتشير التقارير الإسرائيلية الى أن رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين التقى رئيس المخابرات والأمن الوطني السوداني صلاح غوش في ألمانيا، على هامش مؤتمر الأمن في ميونيخ بهدف مساهمة «إسرائيل» في تلبية طلب السودان بأن تقرر الولايات المتحدة حذفها من لائحة الدول الداعمة للإرهاب التي أضيفت اليها عام 1993 وإزالة العقوبات المترتبة جراء ذلك.
اذن هو مسار، وهو ممتد منذ خمسينات القرن الماضي، ومن ثم فإنه من غير العلمي تصوير خطوة اجتماع البرهان مع نتنياهو كخطوة معزولة عن تلك الوقائع، ودور السودان الرسمي الواعي فيها كون تلك الخطوة تعبر عن خيار فكري وسياسي، في حين أن الانفتاح السوداني على الكيان الصهيوني قد سبق فرض الولايات المتحدة الأمريكية العقوبات على السودان عام 1993 بعقود.
موقف مغاير.
ومع أن خطوة البرهان أتت في وقت يشهد حالة من الدعوات الرسمية العربية للتطبيع مع كيان الاحتلال، واستقبال بعض العواصم لمسؤولين ووفود صهيونية، في ذروة التصعيد الإجرامي العنصري ضد فلسطين الشعب والأرض والمقدسات، جاء موقف الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي على نقيض موقف البرهان، بأن عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي بالاعتذار عن لقائه رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأعلن رفض حزبه للتطبيع مع الكيان الصهيوني. وقال المهدي (الجيش لا يحق له أن يقرر في مثل هذه القضايا، لأن الناس لديهم رأي خلافي، وتابع الشعب السوداني سيرفض هذا المبدأ بشكل كبير جداً إذا عملنا استفتاءً.
وأشار المهدي خلال مؤتمر صحافي إلى أن التعامل مع «إسرائيل» قائم على رد الحقوق لأصحابها وإلا فلا، ولفت إلى أن التطبيع مع الكيان الصهيوني لن ينقذ البلاد من مشاكلها.
فيما قال الناطق باسم الحزب الشيوعي في السودان، فتحي الفضل، إن «هناك داخل السلطة من ذهب فعلا إلى التطبيع مع «إسرائيل» وإن «التطبيع لا يمثل الشعب السوداني».
ومع كل ذلك فإننا نعتقد أن البرهان، لم يكن يغرد وحده، لكنه افتقد البرهان، لأن مشاكل السودان هي نتاج سياسات الأنظمة الحاكمة طوال السنوات الماضية، فلم يكن انفصال الجنوب بسبب القضية الفلسطينية، ولا الحروب الداخلية في مناطق مختلفة من السودان أيضا، سواء في دار فور أو غيرها.
إن سبب مشكلة السودان المستمرة، هو عجز العامل الذاتي، ممثلا في توطين الأيديولوجيا إلى الفساد، والعجز في استثمار ثروات السودان الهائلة …فمشكلة السودان ليست في القضية الفلسطينية ولكن في العقل الذي يتوهم ذلك.