منصة الصباح

يُـعتقد‭ ‬أنه‭ ‬خلـّف‭ ‬عدة‭ ‬مخطوطات

ترجمة /عبدالسلام الغريانى  

ج.د.سالنجر الذي أُعتبر في وقت من الأوقات ، أهم كاتب أمريكي منذ الحرب العالمية الثانية و الذي أدار ظهره للإطراء و النجاح وبات مشهورا من حيث لا ينتظر الشهرة ، الذي رحل يوم [ 27 . 1. 2010 ] في بيته ببلدة كورنيش ، ولاية نيو هامبشر حيث عاش في عزلة فرضها على نفسه لأكثر من 50 عاما .

جسد نحيل تربع على قمة المجد و الشهرة مبكرا عبر رواية من الروائع الأدبية الكبيرة « الحارس في حقل الشوفان» أو « حارس الشيـّلم « و مجموعة قصصية بعنوان « تسع قصص» و قصة طويلة « فراني و زووي «.

« الحارس في حقل الشوفان» ، نـُشرت في عام 1951 و كانت الجملة الأولى فيها ، نبر جديدة في الأدب الأمريكي : « لو كان يهمكم حقا ما سأرويه لكم ، و تريدون فوق كل شيء معرفة مسقط رأسي و كيف مضت مباذل طفولتي ، و ماذا كان والداي قبل أن أولد ، و غير ذلك من الترهات التي يمكن العثور عليها في روايات من قبيل ديفد كوبرفيلد ، فإنه لا يلذ لي أن أروي شيئا من ذلك على الإطلاق «..

لقد تأكد للجميع خاصة أمناء المكتبات و المعلمين ــ التأثير القوي و الفوري لرواية « الحارس « مع الراوي و هو الشخصية الرئيسية في الرواية «هولدن كولفيلد» المراهق الذي طـُرد حديثا من المدرسة الإعدادية، أصبحت الأكثر قراءةً في الأدب الأمريكي منذ «هاكلبيري فِـن « لمارك توين.

سخرية الرواية اللاذعة و اللغة العامية ( التعبيران المفضلان لهولدن : « مزيف « و « اللعنة» ) عفوية المراهق و شعوره بالغربة و التمرد و شراسة المحيط و عدم الثقة في عالم الكبار ، كل هذا مسّ وترا حساسا  زمن الحرب الباردة و التي سرعان ما تحولت أشبه بمركز عبادة ، لاسيما بين صفوف الشباب ، إن قراءة الرواية كانت محطة إلزامية بأهمية الحصول على رخصة قيادة السيارة مثلا .

الرواية ما تزال باهرة و متألقة حتى أيامنا هذه ، و إن كان بعض ما يشغل هولدن تجاوزه الشباب اليوم ، و المبيعات منها سنويا أكثر من 250000 نسخة.

مارك ديفيد شابمان ، الذي اغتال جون لينون [ مؤسس فريق البيتلز] عام 1980 برر سلوكه بأنه يمكن العثور على تصرفه في صفحات « الحارس في حقل الشوفان».

عام 1974 عـدّ فيليب روث الروائي الأمريكي الشهير ، تداول الرواية بهذا الزخم خاصة بين طلاب الجامعات أنّ « سالنجر لم يدر ظهره إلى الزمن الذي يعيش فيه ، بل كان قادرا أيضا على وضع إصبعه على الصراع الذي يدور بين الذات و الثقافة».

أبى الكثير من النقاد إعجابهم بالمجموعة القصصية « تسع قصص» التي نـُشرت عام 1953 و أثـّرت في العديد من الكتاب أمثال السيد روث و جون ابدايك و هارولد برودكي . هذه القصص كانت رائعة من حيث التركيز على حدة الحياة الاجتماعية و استخدام الحوار بين العوام ( استخدم السيد سالنجر الخط المائل كشكل النوتات الموسيقية ، لقد كان أستاذا ــ ليس للتعابير الأدبية و حسب ــ بل تعابير أقوال الناس المتداولة) لقد هدم ما تبقي من العمارة التقليدية للقصة القصيرة ــ الهيكل القديم من بداية و وسط و نهاية ــ هيكل البناء العاطفي ، حيث تتحول القصة إلى تعديل في السار خلال مزاج السرد و بمزيد من السخرية . السيد ابدايك قال انه معجب بتلك النهايات المفتوحة كما في عقيدة الزن حيث ليس ثمة قفل نهائي لحالة التأمل المستمرة.

السيد سالنجر يقول عن سخريته الأدبية هذه « أن تقول و تعبر حتى على عكس ما كنت تنوي» . أورفيل بريسكوت كتب في صحيفة نيو يورك تايمز عام 1963 « نادرا ما حدث في تاريخ الأدب الأمريكي أن أثارت حفنة من القصص كل هذا النقاش و الجدل و الثناء و التناقض و التفاسير «.

في شبابه كان يتوق بشدة لتلك النقاشات حول أعماله القصصية و لطالما تفاخر في الكلية بموهبته الأدبية و طموحاته و كتب رسائل إلى ويت بورانت رئيس تحرير مجلة القصة الذي نشر له أولى فصصه الناجحة و لكنه سرعان ما باعثته الشهرة مع رواية « الحارس « حتى أنه طلب من دار النشر إزالة صورته من الغلاف الأخير  للرواية  في الطبعات اللاحقة و طلب من وكيله حرق كل الرسائل التي ترده من المعجبين .

في عام 1953 كان يعيش في الشارع 57 شرق مانهاتن ثم «هرب» من عالم الأدب و اختفى تماما إلى ولاية نيو هامبشر داخل 90 فدانا من التلال المشجرة في بلدة كورنيش و قال انه وفيْ لبطله هولدن إذ حقق رغبته في بناء « كوخ منعزل عن الجميع ليمضي بقية حياته بعيدا عن أي حديث ملعون مع أي شخص غبي».

انه نادرا ما غادر بلدته ، عدا زيارة إلى فلوريدا للقاء وليام شون ، المحرر السابق لمجلة نيويوركر وشبه المنعزل أيضا عن أي نشاط.

بعد انتقاله إلى نيوهامبشر توقف عن النشر و في عام 1997 وافق لدار نشر صغيرة في ولاية فرجينيا على نشر قصة طويلة من 25000 كلمة لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة و لم يسمح بنشر قصصه في أي من الكتب المدرسية أو ضمن المختارات . قصة واحدة تحولت إلى فيلم « العم ويغلي في كونكتيكت» بعنوان « قلبي الأحمق» و هو فيلم سيء جدا و أثار غضب سالنجر الذي رفض بيع حقوقه مرة أخري . و كذلك نادرا ما تحدث إلى الصحافة عدا عام 1974 عندما رفض نشر قصصه لإحدى دور النشر ، قال لمراسل صحيفة التايمز « هناك سلام عجيب في عدم النشر ، النشر هو الغزو الرهيب لخصوصياتي ، مع ذلك أحب الكتابة و لكن أكتب لنفسي و أريد أن أكون بمفردي كليا لأقوم بذلك «.

زادت شهرته مع سعيه للعزلة و الاختفاء خصوصا بعد ظهور صورته على غلاف مجلة تايم عام 1961 لقد ظهر بوجه حزين كئيب و لمحة حانية في عينيه كما في لوحة غريكو ، بذل طاقة كبيرة في تجنب العالم و سلوكه المحير في التهرب من الظهور و النشر نمـّت الأساطير عنه و نهجه الغريب . واحدة من وجهات النظر تقول إما أن يكون معتوها أو تلستوي أمريكا و يعتقد البعض أنه نشر تحت اسم مستعار و في أواخر عام 1970 أشاع ويليام وارتون مؤلف كتاب « بردي» أن سالنجر يكتب تحت اسم مستعار حتى تبين أن ويليام وارتون نفسه هو الاسم المستعار للكاتب البير آمي.

في عام 1984 ذكر الناقد البريطاني ايان هاملتون أن سالنجر اقترب من فكرة كتابة السيرة الذاتية و ربما يكون هاملتون هو من يفكر بكتابة تلك السيرة إلا أن سالنجر منعه ـ عن طريق المحكمة ـ من استخدام اقتباسات و شروحات من رسائله غير المنشورة و إن كان هذا الجهد كلـّف سالنجر بعض الوقت من خصوصيته في العزلة التي يعتز بها.

في يونيو 2009 علـّق قاض أمريكي نشر تكملة غير مسموح بها لرواية « الحارس في حقل الشوفان « للكاتب السويدي فريدريك كولتنغ ، و كان عنوان الكتاب « بعد ستين عاما : مرور في حقل الشوفان» الذي يحاول تتبع مسار الرواية الشهيرة.

 

تعرضت خصوصية سالنجر للخرق عام 1998 ثم عام 2000 و هذه المرة بسبب نشر المذكرات ، الأولى قامت بها جويس ماينارد التي كانت تبلغ 18 عاما عندما ارتبط بها بعلاقة طويلة انتهت بعدما نشرت ماينارد مذكراتها عن تلك العلاقة ثم مذكرات ابنته مارغريت و قد كتب ماثيو نجل سالنجر رسالة لصحيفة نيويورك اوبزرفير أن شقيقته كانت « مضطربة عقليا « ، النقاد يقولون أن النساء يحاولن استغلال العلاقة مع سالنجر للاستفادة.

تقول ابنة سالنجر عنه « عنده سلوكيات جنسية غريبة و نظام غدائي خاص ( بازلاء مجمدة في الإفطار و لحم خروف مطبوخ عند العشاء) و انه ينزع إلى السلوك الأناني و متعسف تجاه أمها و مختلق بدع في الغداء و لائحة طويلة : يتبع عقيدة زن البودية ، و هندوسية فيدانتا ، و يستخدم ابر الوخز للعلاج و يشرب بوله و يجلس ــ لساعات ــ داخل صندوق البرتقال .

و لكن السؤال هل كتب خلال عزلته؟ نظرا لعدم وجود أدلة فان التكهنات تبقى مثار شك ، مثل شخصية ستانلي كوبريك في فيلم « السطوع» كتب الجملة نفسها مرارا و تكرارا و لكن ربما مثل غوغول في نهاية حياته كتب بغزارة ثم حـُرق ما كتب .

السيدة ماينارد تعتقد أن هناك ما لا يقل عن اثنتين من الروايات أخفاها عن الأنظار رغم أنها لم ترَ أبدا ما أخفاه.

ولد جيروم ديفيد سالنجر في مانهاتن يوم راس السنة عام 1919 و هو الطفل الثاني ، أخته دوريس توفيت عام 2001 ، أمه ايرلندية مولودة في اسكتلندا و والده بولندي تاجر لحوم ، أرسل ابنه [سالنجر] إلى فيينا لتعلم تلك التجارة ، و كان قد ترك جامعة نيويورك عام  1936.

في عام 1941 بدأ سالنجر يرسل قصصا للـ نيويوركر و التي رفضت سبع من قصصه من بينها ( غداء لثلاثة) و ( أنا ذهبت للمدرسة مع هتلر) لكنها قبلت قصته ( عصيان ماديسون) و هي قصة مراهق غير مبال بأحداث ما قبل الحرب مما جعلها غير قابلة للنشر حتى 1946 خاصة مع أحداث الهجوم الياباني على بيرل هاربور.

خلال حملة النورماندي نحو ألمانيا ، التقى بـ ارنست همنغواي الكاتب الذي تأثر به و قال أن لقاءهما كان من ذكرياته الايجابية عن الحرب كما عمل مستجوبا لأسرى الحرب نظرا لإتقانه الفرنسية و الألمانية . عانى من صدمة نفسية سيئة بعد الحرب و خضع للعلاج النفسي بعد سقوط برلين، مرة قال لابنته « المرء لا يتخلص  أبدا من رائحة اللحم المحترق في أنفه مهما عاش « و قد دارت بعض أعماله حول هذه التجربة.

ما يحدث في قصص سالنجر لا يخضع  لمنطق ما تعيه الشخصيات عبر الكلام الذي تقوله و لا لتدخل الكاتب ولو لمرة واحدة ، شارحا أو مفسرا أو معلقا ، أو محللا ، بل يحدث أن تسترسل الشخصيات في حوار متواصل لا ينقطع تشعبه و استدراكه و سوء الفهم المتبادل و المتكرر بين المتخاطبين دون أن يصل الحوار بهم إلى أي معنى أو مكان و لكن القارئ في المقابل ليهتدي إلى الخيط الذي يشبك نسيج العلاقات النفسية المعقدة و التي لا تهتدي إليها الشخصيات بالضرورة ، فما يجعل من سالنجر ساحرا يكمن بالتحديد في قدرته على تتبع الأشياء التي لم تجد شكلا لها بعد ، لا عبر ما يصرح به النص ، بل عبر ما يكتمه من غير قصد.

إذن توفي سالنجر أحد أهم عمالقة الأدب في العصر الحديث بهدوء و دون ألم ، كان جيرانه و سكان بلدة كورنيش متورطين في عزلته هذه رغم حملات البحث عنه من قبل الصحافيين و المعجبين ، لم يكشف أحد عن مكان إقامته ، احدي جاراته قالت «كان يمر بسيارته التويوتا  القديمة أمام منزلي كل يوم أحد ، يداه على المقود ، ناظرا أمامه ، لم نكن نراه كنا نسمعه.

انتهت رحلة الحارس في حقل عزلته الذي كثيرا ما وُصف بأنه كتب تماما كما يتكلم الناس

شاهد أيضاً

حضور مميز للخطاطين ابراهيم المصراتي وسالم الدغيس في ملتقى المؤانسة للخط العربي بجرجيس

الصباح شارك الخطاطان الليبيان إبراهيم المصراتي والخطاط سالم الدغيس في  فعاليات الدورة الخامسة لملتقى المؤانسة للخط …