منصة الصباح

ياتمر في سيوه يا…

زايد .. ناقص

جمعة بوكليب

لو أن واحة سيوه كانت على بُعدِ مرمى حصاة من مقر سكناي لما فكرتُ في زيارتها، حتى من باب اشباع فضول عابر. لكن الروائي المصري بهاء طاهر جعل منها مسرحاً لأحداث روايته “واحة الغروب.”

تناقلت وسائل الاعلام، مؤخراً، خبراً يتعلق بمحامٍ مصري رفع دعوى في المحاكم بالقاهرة يدّعي فيها بمصرية واحة الجغبوب، ويطالب بردها تحت السيادة المصرية. وما أعلمه شخصياً هو أن ادعاءه صحيح تاريخياً من حيث المبدأ، صحة ليبيّة واحة سيوه. وما حدث، حسب علمي، هو أنه خلال فترة بدايات الحكم الملكي بعد الاستقلال، وترسيم الحدود بين البلدين، حدثت مبادلة الواحتين. إذ تنازلت الحكومة الليبية لنظيرتها المصرية عن واحة سيوه مقابل تنازل مصر لليبيا عن واحة الجغبوب. السبب وراء المبادلة هو أن الجغبوب تحوي رفات الشيخ محمد بن على السنوسي طيب الله ثراه مؤسس الحركة السنوسية. وهي، ايضاً، الواحة التي أسس بها – حسب علمي – أكبر الزوايا، وجعل منها مقراً لدعوته. لذلك السبب حدثت المبادلة. فصارت الجغبوب رسمياً واحة ليبية، وأنتقلت سيوه إلى مصر، وأغلق الملف. ولا علم لي بالأسباب التي دفعت بمحام مصري للمطالبة بها الآن، علماً بأن الواحة لا تختلف عن غيرها من الواحات الأخرى.  أضف إلى ذلك، أن الجغبوب ليست في شهرة واحة سيوه المعروفة بجود تمر نخيلها حتى يضرب به المثل فيقال ” ياتمر في سيوه ويالبن في قرقارش.”

ولنترك الجغبوب وسيوه ومن يقيم بهما من بشر ونبات وحيوانات في حالهم الذي لم يشهد تغييراً يذكر منذ قرون، ونحاول التركيز لفهم عناصر علاقة غريبة صاغها الوجدان الشعبي قديماً ، في ذلك المثل، بشكل يدعو للتساؤل  بين تمر في سيوه ولبن في قرقارش.

فما أعرفه شخصياً منذ الطفولة أن قرقارش ضاحية من ضواحي  غرب طرابلس تقع على البحر، وبها مرفأ صغير لصائدي السمك، وكانت قبل النفط ، احد ثلاثة أرياف تحيط بالمدينة هي وسوق الجمعة وتاجوراء. وعلى ما يبدو كان لمنتوجها من اللبن شهرة معروفة. لكن اللبن القرقارشي اختفى مع السواني في طيات الزمن، وبقت شهرته فقط.

أعتقد أن المثل الذي يجمع لبن قرقارش المتخيّل بتمر سيوه الحقيقي يمكن أن يصنف تحت خانة الأمثال التي تضرب للتدليل على صعوبة أو استحالة تحقق شيء. وأن المثل وجد للتعبير عن حالة حادة من فقدان الأمل، واستحالة تحققه، في لحظات تكون الحاجة إليه عظيمة، وأكثر من ضرورية، وفي ظروف تجعل قائله يتمنّى في نفسه أمراً يعرف مسبقاً استحالة تحققه بسبب بعد المسافة بين المنطقتين.

السؤال هو ماذا ستفعل المحاكم المصرية التي ورّطت في الأمر؟ وإذا حكمت لصالح المدعي فهل يعني ذلك ضمنياً، وفقا للاتفاقية الموقعة، عودة واحة سيوه للسيادة الليبية، أم أن واحات مصر ستزداد واحدة أخرى؟

أنا على ثقة أن سكان الواحتين، في تلك القفار المنسية من حكومتي البلدين، لاعلم لهم بما يحدث في شأنهم في ردهات المحاكم . ولا يهمهم، كذلك، ما سيقرره قضاة يعيشون في مدينة تكاد تغرق في النيل، من شدة ازدحامها بالبشر. وماذا سيتغير في حياة انسان يعيش في واحة، في صحراء مهلكة، سواء أكانت مصرية أو ليبية؟

البشر في الجغبوب أو في سيوه، أو غيرهما من الواحات الليبية والمصرية في تلك الصحارى المقطوعة، لاتتغير حيواتهم بتغيّر العلم المرفوع على مبنى مركز الشرطة إن وجد. وكل ما يهمهم أن يتركوا لحالهم، ليواصلوا صراعهم الحياتي من أجل البقاء.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …