منصة الصباح

وطنــــي‭ ‬الجريــح

 بقلم/‬إبراهيم‭ ‬تنتوش

يؤسفني‭ ‬أن‭ ‬أراك‭ ‬تنزف‭ ‬دماً‭ ‬وجراحك‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬تزداد‭ ‬الكل‭ ‬يدعي‭ ‬حبك‭ ‬والكل‭ ‬يتغنى‭ ‬بك‭ ‬والكل‭ ‬ينتمي‭ ‬إليك‭ ‬ولكن‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬يراك‭ ‬بصدق‭ ‬أنك‭ ‬الحضن‭ ‬الدافئ‭ ‬الذي‭ ‬يحن‭ ‬إليه‭ ‬ويعرف‭ ‬معرفة‭ ‬اليقين‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬طعم‭ ‬للحياة‭ ‬فوقه‭ ‬وهو‭ ‬بهذه‭ ‬الحالة‭ ‬المرضية‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬ويئن‭ ‬منها‭ ‬صباحاً‭ ‬ومساءً‭ .‬
ولكن‭ ‬ياترى‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الذي‭ ‬أوصل‭ ‬الوطن‭ ‬الجريح‭ ‬والى‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬المرضية‭ ‬المستعصية‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬الدكاترة‭ ‬المخلصين‭ ‬لوطنهم‭ .‬
السبب‭ ‬هو‭ ‬أصحاب‭ ‬العقول‭ ‬المستأجرة‭ .‬
نعم‭ ‬إنهم‭ ‬أصحاب‭ ‬تلك‭ ‬العقول‭ ‬التي‭ ‬أعطوا‭ ‬حق‭ ‬ملكيتها‭ ‬لغيرهم‭ ‬مقابل‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬متاع‭ ‬الدنيا‭ ‬الزائل‭ ‬والذي‭ ‬مهما‭ ‬يرونه‭ ‬هم‭ ‬كثير‭ ‬فإنه‭ ‬سيذهب‭ ‬إلي‭ ‬مزبلة‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬أوسع‭ ‬أبوابها‭ ‬ولا‭ ‬كرامة‭ ‬لهم‭ ‬فالذي‭ ‬يبيع‭ ‬وطنه‭ ‬ويقدم‭ ‬مصالح‭ ‬الآخرين‭ ‬على‭ ‬مصالح‭ ‬وطنه‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬العيش‭ ‬فوق‭ ‬ترابه‭ ‬الطاهر‭ .‬
من‭ ‬المؤلم‭ ‬جداً‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬أشخاصاً‭ ‬غرر‭ ‬بهم‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تخصصاتهم‭ ‬العلمية‭ ‬عالية‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬تجد‭ ‬أحكامهم‭ ‬وقراراتهم‭ ‬سطحية‭ ‬رغم‭ ‬تلك‭ ‬الشهادات‭ ‬العالية‭ ‬وتجد‭ ‬كذلك‭ ‬أشخاصاً‭ ‬تحليلاتهم‭ ‬وقراءاتهم‭ ‬لا‭ ‬توازي‭ ‬خبراتهم‭ ‬العملية‭ .‬
كل‭ ‬ذلك‭ ‬بسبب‭ ‬تأجير‭ ‬عقولهم‭ ‬لغيرهم‭ .‬
نعم‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬يتحكموا‭ ‬في‭ ‬عقولهم‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يملكونها‭ .‬نعم‭ ‬لا‭ ‬يملكونها‭ ‬لأنها‭ ‬مجرد‭ ‬أجهزة‭ ‬تسكن‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬العلوي‭ ‬من‭ ‬الجسد‭ ‬وتم‭ ‬تأجيرها‭ ‬للآخرين‭ ‬والتحكم‭ ‬بها‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬قبلهم‭ .‬
وقبل‭ ‬أن‭ ‬تحكم‭ ‬على‭ ‬غيرك‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يتحكم‭ ‬في‭ ‬عقله‭ ‬وتقول‭ ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬على‭ ‬نعمة‭ ‬العقل‭ ‬فيجب‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تحاسب‭ ‬نفسك‭ ‬بكل‭ ‬مصداقية‭ ‬وشفافية‭ ‬لترى‭ ‬بنفسك‭ ‬وان‭ ‬كنت‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬تملك‭ ‬عقلك‭ ‬وهذه‭ ‬بعض‭ ‬علامات‭ ‬العقول‭ ‬المؤجرة‭ ‬منها‭ ‬التسرع‭ ‬في‭ ‬إصدار‭ ‬الأحكام‭ ‬على‭ ‬المخالف‭ ‬وجعل‭ ‬هذا‭ ‬الحكم‭ ‬قطعي‭ ‬وتابث‭ ‬عندك‭ ‬إلي‭ ‬درجة‭ ‬اليقين‭ ‬التي‭ ‬رسخت‭ ‬عندك‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬الباطن‭ ‬وأصبحت‭ ‬مُسلمة‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للنقاش‭ ‬ولا‭ ‬التراجع‭ ‬عنها‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬محاولة‭ ‬فهم‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬ومناقشة‭ ‬أفكاره‭ ‬لأن‭ ‬اعتقاداتك‭ ‬تحولت‭ ‬الي‭ ‬عقائد‭ ‬راسخة‭ ‬فأصبحت‭ ‬قناعات‭ ‬قطعية‭ ‬فأصبحت‭ ‬قرارتك‭ ‬تحت‭ ‬سيطرة‭ ‬هذا‭ ‬الموروث‭ ‬وليس‭ ‬العقل‭ ‬الحر‭ ‬السليم‭ ‬ومنها‭ ‬التسليم‭ ‬بمسلمات‭ ‬غيرك‭ ‬فالعقلية‭ ‬المؤجرة‭ ‬لا‭ ‬تفكر‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬من‭ ‬اقتنعت‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬داخلها‭ ‬أنهم‭ ‬من‭ ‬يملكون‭ ‬حق‭ ‬التنظير‭ ‬والتوجيه‭ ‬وأصبح‭ ‬كلامهم‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬المسلم‭ ‬به‭ ‬وغير‭ ‬قابل‭ ‬للنقاش‭ ‬وتترك‭ ‬الآخرين‭ ‬يفرضون‭ ‬مسلماتهم‭ ‬عليها‭ ‬ولا‭ ‬تحاول‭ ‬التفكير‭ ‬فيها‭ ‬أو‭ ‬إعطاء‭ ‬فرصة‭ ‬المراجعة‭ ‬والتعديل‭ ‬ولسات‭ ‬حالها‭ ‬يقول‭ ‬وجدنا‭ ‬آباءنا‭ ‬كذلك‭ ‬يفعلون‭ ‬وبهذا‭ ‬يصبح‭ ‬العقل‭ ‬مؤجراً‭ ‬لمن‭ ‬فرض‭ ‬تلك‭ ‬المسلمات‭ .‬
ومنها‭ ‬كذلك‭ ‬تقديس‭ ‬أصحاب‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭ ‬المنحرفة‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬النواحي‭ ‬بحيث‭ ‬يصبح‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬ذاك‭ ‬الشيخ‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬القائد‭ ‬أو‭ ‬المفكر‭ ‬أو‭.. ‬أو‭.. ‬شيئا‭ ‬مقدساً‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬تجاوزه‭ ‬بل‭ ‬ولا‭ ‬يفكر‭ ‬مجرد‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬إمراره‭ ‬على‭ ‬عقله‭ ‬فلعله‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬رأي‭ ‬آخر،‭ ‬ولكن‭ ‬للأسف‭ ‬لا‭ ‬يحدث‭ ‬هذا‭ .. ‬ومنها‭ ‬كذلك‭ ‬صفة‭ ‬التفكير‭ ‬الجمعي،‭ ‬أي‭ ‬الرأي‭ ‬الذي‭ ‬تتبناه‭ ‬هذه‭ ‬الجماعة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬داخل‭ ‬قرارة‭ ‬نفسه‭ ‬غير‭ ‬مقتنع‭ ‬به،‭ ‬لكنه‭ ‬يتبناه‭ ‬ويدافع‭ ‬عنه‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬نتيجة‭ ‬ذلك‭ ‬ولو‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الوطن‭ ‬
كل‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬أقولها‭ ‬وللأسف‭ ‬الشديد‭ ‬موجودة‭ ‬عندنا‭ ‬نحن‭ ‬الليبين‭ ‬،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬ولهذا‭ ‬لا‭ ‬نزال‭ ‬نعاني‭ ‬من‭ ‬ويلات‭ ‬الحروب‭ ‬ولعنات‭ ‬الدماء‭ ‬البريئة‭ ‬
لأننا‭ ‬وبكل‭ ‬صراحة‭ ‬لا‭ ‬نملك‭ ‬عقولنا‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬مستأجرة‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬أجرها‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الوطن‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬أجرها‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الدين‭ ‬ولكن‭ ‬المحصلة‭ ‬النهائية‭ ‬هي‭ ‬تفتيت‭ ‬الوطن‭ ‬وتمزيق‭ ‬النسيج‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وترويع‭ ‬الآمنيين‭ ‬وتيتيم‭ ‬الأطفال‭ ‬وترميل‭ ‬النساء‭.. ‬وكما‭ ‬قلت‭ ‬آنفا،‭ ‬فإن‭ ‬المحصلة‭ ‬النهائية‭ ‬هي‭ ‬ضياع‭ ‬الوطن‭.‬
وطني‭ ‬الغالي‭ ‬أعتذر‭ ‬إليك‭ ‬وأنت‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تئن‭ ‬وتنزف‭ ‬دماً‭ .. ‬وطني‭ ‬الغالي‭ ‬لقد‭ ‬باعك‭ ‬من‭ ‬يتشدق‭ ‬صباح‭ ‬مساء‭ ‬باسمك،‭ ‬وأصبحت‭ ‬الوطنية‭ ‬تجارة‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تنهب‭ ‬وتسرق‭ ‬الملايين‭ .. ‬باعوك‭ ‬ياوطني،‭ ‬لا‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬قتلوك‭ ‬ودنسوا‭ ‬أرضك‭ ‬بمن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭ ‬يحلم‭ ‬أن‭ ‬يطأ‭ ‬بقدميه‭ ‬ترابك‭ ‬فضلا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬الكلمة‭ ‬في‭ ‬حكمك‭ .. ‬باعوك‭ ‬ياوطني‭ ‬ووصفونا‭ ‬بشتى‭ ‬الأوصاف‭ ‬كي‭ ‬يصرفوا‭ ‬عنا‭ ‬أحبابنا‭ .‬
وطني‭ ‬العزيز‭ ‬نعم‭ ‬عشنا‭ ‬الغربة‭ ‬الهجرة‭ ‬بعيداً‭ ‬عنك‭ ‬لما‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬كرهاً‭ ‬لك‭ ‬لا‭ ‬أبدا،‭ ‬ولكننا‭ ‬لا‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عقولنا‭ ‬مؤجرة‭ ‬لغيرنا‭ ‬مهما‭ ‬كان‭.‬
عشنا‭ ‬زهرة‭ ‬شبابنا‭ ‬بعيداً‭ ‬عنك‭ ‬ولكن‭ ‬قلوبنا‭ ‬تهفو‭ ‬إليك‭ ‬إلي‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬يوم‭ ‬العرس‭ ‬الكبير‭.. ‬لم‭ ‬تذرف‭ ‬دموعنا‭ ‬قط‭ ‬طوال‭ ‬العقود‭ ‬المظلمة‭ ‬عند‭ ‬سماع‭ ‬النشيد‭ ‬الوطني‭ ‬ولكن‭ ‬عندما‭ ‬رجعت‭ ‬ليبيا‭ ‬إلى‭ ‬مكانها‭ ‬الطبيعي،‭ ‬أي‭ ‬ليبيا‭ ‬لكل‭ ‬الليبيين‭ ‬ولن‭ ‬نختزلها‭ ‬في‭ ‬شخص‭ ‬واحد‭ ‬أو‭ ‬حزب‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬أبدا،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬لكل‭ ‬الأحرار‭ ‬والشرفاء‭ .. ‬أقول‭ ‬لم‭ ‬تذرف‭ ‬دموعنا‭ ‬إلا‭ ‬عند‭ ‬سماع‭ ‬نشيد‭ ‬ليبيا‭ ‬الحر‭ ‬بعد‭ ‬ثورة‭ ‬فبراير‭ ‬وأريد‭ ‬أن‭ ‬أضع‭ ‬كلمات‭ ‬لتبقى‭ ‬شاهدة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬عند‭ ‬مغادرتي‭ ‬لمطار‭ ‬جنوب‭ ‬أفريقيا‭ ‬وكانت‭ ‬معي‭ ‬أوراق‭ ‬الإقامة‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬يكون‭ ‬لي‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الجنسية‭ ‬فقمت‭ ‬بتقديمها‭ ‬لموظفة‭ ‬الجوازات‭ ‬فقالت‭ ‬لي‭ ‬اتركها‭ ‬معك‭ ‬فقلت‭ ‬لها‭ ‬الكلمة‭ ‬التي‭ ‬لازالت‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬أنا‭ ‬مشكلتي‭ ‬مع‭ ‬نظام‭ ‬وليست‭ ‬مع‭ ‬بلادي،‭ ‬وذهب‭ ‬النظام‭ ‬الى‭ ‬غير‭ ‬رجعة‭ ‬وتبقى‭ ‬ليبيا‭ ‬الى‭ ‬الأبد‭. ‬

 

شاهد أيضاً

فئة الخمسين… وحال المساكين

باختصار بقلم د. علي عاشور قبل أيام انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي صور لقرار خازن …