جميلة الميهوب
“يا دمع قطرّ والسحاب يمطرّ…لا جي الغالي لا جواب مسطرّ”…
كانت أغنيتها المفضلة. أول مرة شفتها كنت طفلة ألعب في جنان بيتنا، عند وصول عمي سالم الذي كنا ننتظر وصوله. أوقف عمي سيارته الزيتية الكبيرة التي أحضرها معه من أمريكا.
نزل من السيارة وفي لحظات كان يفتح باب السيارة الثاني.
نزلت شابة في بداية العشرينات، رائعة الجمال. جسد ممشوق، ظهر مشدود. كتفاها ورأسها باتجاه السماء. واضح عليها جداً اعتدادها بنفسها.
كانت ترتدي بنطلونا وبلوزة مع حذاء بكعب عالٍ، وعلى كتفها حقيبة صغيرة أنيقة. بشرتها بيضاء، عيناها سوداوان واسعتان… شعرها بني يغطي كتفيها. فرحة، مزهوة بنفسها، لكنّ عمّي كان أكثر فرحاً وزهواً بها.
بعد سنوات كانت أول زيارة لي إلى بيت عمي سالم وزوجته وداد في شقتهم الصغيرة والأنيقة التي يغمرها الود والحب. زيارتي استمرت عدة أيام.
حين كانت وداد تنظف ركناً من أركان المكتبة وقعت صورة. صورة لشاب أسمر يرتدي بدلة وربطة عنق.
التقطت وداد الصورة، وبهدوء حاولت أن تبدو فيه طبيعية قالت. هذا صديق أخي. مات قبل أن أقابل عمك. مات قبل أن أتزوج سالم. وبدون أن أتفوه بكلمة فهمت وداد أني لا أقف عند تلك الأشياء.
رأيتها تأخذ الصورة وتمسحها على صدرها قبل أن تعيدها إلى مكانها، كأنها تمسح شيئاً ما عالقاً بها، أو كأنها تحاول أن تعيد شيئاً من الحياة إلى تلك الصورة. أعادت الصورة إلى مكانها وأكملت تنظيف المكتبة وهي تغني بصوت منخفض حزين:
يا دمع قطرّ والسحاب يمطـــــرّ .
لا جي الغالي، لا جواب مسطرّ…
محنة المرض التي مرت بها وداد لاحقاً، والعمليات التي أجريت على قلبها أكثر من مرة أضفت على روحها مزيداً من النقاء والصفاء. انعكس ذلك على وجه وداد وملامحها فزادها جمالاً وبهاءً.
مع مرور السنين توطدت علاقتي بوداد الجميلة والإنسانة، خاصة بعد زواجي.
انتقلت عائلة عمي وسكنت فيلا كبيرة. أول ما أصل أرن الجرس وأعبر باب الحديقة المفتوح. في المدخل الرئيسي للبيت، بابتسامتها ولكنتها الطرابلسية المبالغ فيها والتي لا أستسيغها إلا منها، تستقبلني وداد بالأحضان: نادية.. نديوه الغالية.. مرحبتين.
كانت لديها قدرة على معرفة مزاجي من اللحظة الأولى. لو كنت زعلانة تقول ونحن في طريقنا إلى الغرفة للجلوس بمفردنا:
ـ جهزوا لبنية عمكم قهيوتها، جهزوا.
ما إن نجلس حتى تقول، لترطيب الجو، وهي تبتسم:
ـ ناخذلك من عمك دخان ؟ هيا، شنو رايك؟ ناخذلك من عمك ولعة؟ ـ وهي تقهقه بصوت عالٍ تستمر: ـ سالم، يا سالم، هات ولعة لبنية خوك هات.
بعد رحلة علاجي ورجوعي من لندن كانت وداد أول من زرته. بعد يومين من عودتي إلى شقتي، رن الجرس، ففتحت الباب.
وداد، تمسك بيدها قنينة ماء. واضح عليها التعب والإرهاق الشديد.
وداد! علاش، يا وداد؟ علاش تركبي أربعة أدوار؟ علاش؟ –
دخلت وداد. جلست على أقرب كرسي في الصالة. شربت ماء. بابتسامتها التي لم تختفِ قالت، وهي تلهث
ـ نركب بالدرجتين والدرجة الثالثة نقعمز ونرتاح لين وصلتك. وما صارلي شي. في أصول.. في أصول. إنت مرضتي وزيارتي ليك واجب.
بعد سنتين كان رجوعي المفاجيء لليبيا. رنيت الجرس. عبرت باب الحديقة وناديت وداد.. وداد.. انفتح الباب الرئيسي. صبية أفريقية استقبلتني بلا ابتسامة وبلا أحضان.
– وين وداد؟ دون أن تتفوه بكلمة أشارت بيدها أن أتبعها.
دخلت الغرفة، سرير طبي جالسة عليه وداد وهي تسرّح شعرها. بدهشة ممزوجة بالفرح والحب والألم قالت: نادية.. نديوه الغالية.. جيتي؟
جريت نحو وداد وهي مقعدة لم تعد قادرة على الحركة. تلاقت عيوننا. حضنتها. بصعوبة بالغة استطاع عمي أن يفصلنا عن بعض، وبصعوبة توقفنا عن البكاء.
عندما أحست وداد باقتراب موعد انصرافي، طلبت من الصبية وابنتها أن تساعداها لتجلس على كرسي ضخم كان قرب سريرها.
ـ علاش ماما علاش!؟ خليك في سريرك أرتح. ـ قالت ابنة عمي.
سمعت وداد تهمس:
ـ بنية عمك بتروح، نادية بتروح لازم نودعها.
ما إن وقفت أستعد للخروج حتى أشارت لي وداد بيدها لأقترب منها. ركعت على ركبتي ووضعت يدي على ركبتها:
ـ اه وداد، شنو؟
سحبت وشاحاً كان موجوداً على مسند الكرسي وألقته على كتفَي. وقبل أن أعترض قالت وهي تبتسم بود:
ـ حطيه على شعرك في السيارة بس. أول ما توصلي العمارة نحّيه. ـ واستمرت بحسرة وألم ـ : نادية الغالية، الدنيا معادش زي زمان. على خاطري تربحي، على خاطر مرت عمك.
سلّمت على وداد وخرجت من الدار. أثناء خروجي، وأنا ما أزال في الصالة،
وقفت والتفت إلى وداد. كانت متجهة بوجهها وكتفَيها إلى الأرض. كانت تبدو حزينة. تلاقت عيوننا. أدركت إني لن أرى وداد مرّة ثانية.
رحلت وداد…