بقلم / سعاد الوحيدي
في كتابه «في سبيل الصليب» يروي الكاتب الأرميني دَاوُدَ خيريان:»في برد الصباح القارس، كان يجب أن نصنع جسراً من الموتى، لعبور مستنقع باشيولاق…لاحظ العقيد أوليان ترددي، فأشار لي: لا تخف!! فوضعت قدمي على صدر طفلة، وبدأت السير. لقد غرقت قدماي وسروالي في الدم، إذ عبرت هكذا فوق ١٢٠٠ جثة». يتحدث الكاتب هنا عن عبوره مع فيالق القوات الأرمينية نحو «خوجالي»، لمسحها ومن عليها في ليلة وضحاها، من خارطة الوجود (في ٢٦ فبراير١٩٩٢). وقد كانت عروس جبال قراباغ دون منازع، متكاسلة الى تاريخ، ومعمار إسلامي خرافي الجمال، والتميز..هذا الذي كُتب له أن يُدك دكاً، وأن يختلط ركامه بأشلاء أهل المكان، في فاجعة «إنسانية» يصعب على الحروف تصويرها.
وهي الواقعة التي أبرزت في ذاتها، واحداً من أعقد النماذج التاريخية لانقلاب شعب كان «ضحية» للقمع أو الإبادة عبر تاريخه، الى جلاد بإمتياز بحق شعب آخر. ففي الوقت الذي نجح فيه الأرمن في الترافع أمام العالم بشأن إنتهاكات الأتراك بحقهم، (حتى إن البرلمان الفرنسي اصدر إعترافاً بإن ما حدث من طرف القوات التركية بحق الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، هو نوع من الإبادة العرقية)، نجدهم لم يترددوا في القيام بأبشع وأشنع جرائم الإبادة العرقية، ضد الاذربيجان المسلمين في «خوجالي». بل هم ذهبوا لتوظيف أشكالاً من العنف المريع يصعب تصور صدوره عن بشر، هو الذي يقفز للرأس مع ذكر «اليوم العالمي للاعنف». خاصة وأنه لم يعد لأموات خوجالي كثير بواكي.!!
وترتبط هذه القضية، أبعد من وجع التخلي الذي تعاني منه أذربيجان، لوقوعها بين نار انتمائها للمذهب الشيعي من جهة، وخياراتها الاستراتجية للتحالف مع السنة عبر التاريخ. (فبقت خارج اهتمام الشيعة كما السنة)، بإشكاليات تركة الأراضي القومية المستقلة عن الاتحاد السوفييتي السابق من ناحية، وإشكالية الأراضي القومية المتداخلة، حيث قد تتمركز أغلبية قومية على أراضي ضمن دولة وطنية مجاورة، (كنموذج كشمير ذات الأغلبية المسلمة في الهند). حيث ارتأت أرمينيا ضم إقليم قراباغ الأذربيجاني (المتمتع بالحكم الذاتي)، لتواجد جماعات ارمينية به، (اصدر السوفييت الأعلى لجمهورية أرمينيا الاشتراكية قرارا بإلحاق الإقليم لأرمينيا في ديسمبر ١٩٨٩). الأمر الذي اعتبرته أذربيجان انتهاكا للسيادة الوطنية، ودخلت في مواجهات مسلحة مع ارمينيا، استمرت لست سنوات، وحتى غزو القوات الأرمنية لخوجالي في فبراير ١٩٩٢. وحيث قامت باحتلال ما يقارب ٢٠ ٪ من التراب الأذربيجاني، وقتل، وتشريد ما يفوق المليون أذربيجاني. (وصف تقرير لجنة حقوق الإنسان مذبحة «خوجالي» بإنها أبشع مجزرة حدثت في تاريخ النزاع الأذربيجاني/الأرمني. وإنها نسق من التدمير المنظم، والتطهير العرقي الذي مارسته القوات المسلحة الأرمينية، التي تترافع أمام المجتمع الدولي كضحية «.
ويتعذر في حقيقة الامر الخوض هنا في تفاصيل هذا النزاع الذي لازال قائما بين البلدين، الا ان اللافت هو ضراوة العنف الممنهج الذي وظفه الأرمن المسيحيين، لإقتلاع جذور الوجود الاسلامي في قراباغ. وذلك من خلال قتل وذبح وسحق وسلخ الجلود وبقر بُطُون الحوامل (وفق مختلف التقاريرالدولية ذات العلاقة)، وهدم معالم المعمار الاسلامي من مساجد ومدارس وبيوت… بهدف قطع خط الرجعة أمام غير الأرمن لتلك الارض. المشهد الذي نراه يتكرر اليوم في ميانمار بحق الروهينقا، حيث ينخرط بوذية المنطقة في ذبح وتشريد المسلمين وتدمير وحرق مدنهم، بهدف ازالة الوجود الاسلامي هناك.
وهنا يأتي السؤال: أية «إنسانية» تلك التي تجمع بين كل هؤلاء البشر؟ وكيف يمكن لدين أو عرق أو ثقافة أن تسمح بإنسلاخ الإنسان عن إنسانيته، وأن يتحول الى وحش ومصاص دماء، لمجرد إرضاء شهوة إنتقام، أو شهوة قوة؟
فهذا تاريخ البشر قد تختر بوقائع قطع الرؤس هنا وهناك… وأرتوت خلاله الأرض بدماء نافست الماء. دون أن نصل للإجابة عن سؤال نازف: لماذا هذا العنف؟ وقد اتسعت الأرض لكل من عليها؟!.