منصة الصباح

” …… واتمنّى لو أنساك”

” …… واتمنّى لو أنساك”

زايد…ناقص

جمعة بوكليب

تعمدتُ حذفَ كلمة “أهواك”، التي تبدأ بها أغنية المرحوم عبد الحليم حافظ، من العنوان أعلاه، رغم  رقّتها وطراوة نعومة وقعها على القلب الانساني، في كل الأوقات والأعمار، حين تقال من حبيب إلى حبيب، تفادياً لسؤال متوقع قد يُطرح. وفي ذات الوقت، حرصت على ذكر ما بعدها: تمنّي النسيان. وذلك فعل، استحق عقاباً علىه.

هل كنتُ، في فعل الحذف، انأى بنفسي  عما يجعلني رهينة للسؤال: من هي المقصودة بـ” أهواك”؟ وهل كنتُ، في فعل تمنّي النسيان، أحاول وحيداً، قدر المستطاع، عبور جسر ذكريات، بعد سنوات طويلة، بعينين مفتوحتين، وبقلب واجف، متلمساً طريقي إلى من أهفو مشتهياً، وأخاف العاقبة؟

الأغنية تلك، مثل غيرها، قد تكون منسية بمرور الزمن لدى كثيرين من أبناء جيلي. وهناك آخرون، من أجيال لاحقة، لم يسمعوا بها، ولا يربطهم بها  توقٌ وحنين، ولا تعني لهم شيئاً. وثمة أمثالي، من كانوا يرددونها بلا توقف، ذات زمن،  ثم نسوها.  لكنّها، وعلى حين غفلة، كأشياء كثيرة، تباغتهم على غير موعد، من حين لآخر، في منعطف ما، في شارع ما، في مدينة ما، تحت سماء غريبة ، كثيراً ما تكون رمادية وممطرة وباردة، وكأنها بحضورها المفاجيء، تطرق أبواباً هُجرت منذ أزمان، ولم تعد تُطرق. عنذئذ، يدركون أنهم، قسراً، أوغلوا  في دروب الزمن ومنعطفاته ومرارته،  وأضحوا، فجأة،على مرمى حصاة من محطة أخيرة.  لذلك، حين يسمعون الطَرقاتِ على أبوابهم المهجورة، ينهضون واقفين من اتكاءاتهم، ويهرعون إلى فتحها. فإذا بهم وجهاً لوجه مع ماض غادرهم ونسوه، تعمّد زيارتهم لينفخ رماداً تراكم فوق جذواتهم. فيتوقفون متأملين بعيون قلوبهم  في ملامح الزائر القادم على غير موعد. إذ ربما يتنسّمون، في تلك الملامح، رائحة  بهجة مفقودة، ذكّرتهم بها فجأة أغنية منسية، كانت مثل شجرة وارفة الظلال، يستظلون بها هرباً من القيظ في تلك السنين البعيدة، ثم أضاعوها من دون قصد، كما أضاعوا، قبل أن يسكنهم الوعي والادراك،  في منعطفات الوقت، أشياء أخرى من دون قصد. وهناك، تحديداً، في تلك اللحظات القصيرة، يلمع فجأة في الذاكرة وميضُ بريق قديم، قادماً من أفق ماضٍ بعيد، مضيئاً عتم ما حولهم. فيرتبكون من الحيرة. ولا يعرفون هل يبتهجون لرؤية ذلك الوميض القديم، أم يتحسرون على ما فات وولّى، وأضحى مدفوناً  في مقابر الزمن؟

تعودُ فجأة تلك المرحلة من العمر، في حياة ذلك الولد، حين هزّت يدُ تلك البنتُ، لأول مرّة، أغصان قلبه الطري، ذات مساء، فتساقط عليهما الحبُّ. ذلك الولد كبر، وصار كهلاً. وفي طريقه إلى متاهة النسيان، يفضل أن يمشي الهُوينى، متكئاً على عصا الوقت والذكريات. وتلك البنت الجريئة الجميلة، لم تكبر. بل ظلت صبية الملامح، وفتية الضحكات في القلب، مثل طراوة تلك الهزة الأولى لأغصان قلبه، وتفيض وجداً.  ومازالت حتى الآن، كلما، لاحت فجأة في خاطره، توقد في روحه، ما ظل كامناً ومترسباً  في الحنايا والشغاف من طراوة شباب، رغم رعونة الزمن.

ذلك الزمان. ذلك الولد. تلك البنت، تلك المدينة. ذلك البلد. تلك الأحلام، و….تلك الأغنية:” أهواك وأتمنّى لو أنساك.” رجفة القلب الأولى ، وعذوبة رعشة القبلة الأولى. ذلك الرفيف، بلا جناحين، في صحو سماء صيف بعيد، في عالم كان مدثراً بأحلام وأمنيات، وبطرق مفروشة بأزهار وورود: ماذا حدث له؟ وكيف انتهى فجأة؟ ولماذا يعود إلينا، على جناحي أغنية قديمة، ليربك خطواتنا الهرمة وأفكارنا، ويحيلنا، عن سبق اصراروترصد، إلى جمر من حسرات؟

شاهد أيضاً

مباريات الدربي

عبد الرزاق الداهش ——- قبل كل مباراة ديربي، ندخلُ في صداعٍ عن مكان المباراة، وتوقيتها، …