د.أبوالقاسم صميدة
مع اقتراب موسم الانتخابات الأمريكية ، والتى سيكون «دونالد ترامب» طرفاً أساسياً فيها وهو الذى لا يتشابه مع أي رئيس أمريكي آخر، فى سلسلة الرؤساء الأمريكيين الستة والأربعين، لكنه كما يقول الكاتب مهدى مصطفى : يقترب أحيانًا من الرئيس السابع «أندرو جاكسون»، والذي كان «ترامب» يضع صورته فى مكتبه البيضاوي، «جاكسون» الذي كانت حركة «حياة السود مهمة» قد هشمت تمثاله بعد واقعة مقتل الأمريكي الأسمر «جورج فلويد» على أيدي قوات الأمن الأمريكية.
وخلال الحملة الانتخابية الأولى لترامب اكتسح وقتها المرشح السياسى المغمور ولاية بعد أخرى واكتسح كالسيل الجارف أصوات الناخبين الجمهوريين، وحصل على الأغلبية وأصبح رئيساً فى المرة السابقة، متفوقًا على كلينتون، والآن يريد تكرار الكرة متجاوزًا خسارته السابقة، وهكذا يبدو كقطار بلا مكابح، فلا يوجد من يوقفه من المرشحين المنتمين للحزب الجمهورى، ولديه قاعدة ناخبين تعد بالملايين، ازدادت مع تدفق المهاجرين من المكسيك وأمريكا اللاتينية وشرق آسيا، الحالمين بالثروة والرفاهية ولكن مع زيادة الأزمات الاقتصادية الكارثية فى أمريكا، حيث تعدى الدين الداخلي الناتج القومي الأمريكي، وهناك ديون خارجية كبيرة على أمريكا، وهناك شعور بالغضب من تحويل دولة الأحلام والرفاه، إلى دولة مديونة عاجزة، تريد قيادة عالم أحادي القطب، لا صوت يعلو فيه على صوت المال والقوة .
وهكذا يبدو أن ترامب سيكون الرئيس الأمريكي القادم «السابع والأربعين»، إذا استطاع ان يتخطى فخاخ خصومه وتجاوز «المجزرة القانونية والقضائية»، أو التصفية الوجودية، كما يصفها ترامب نفسه بسبب القضايا المرفوعة ضده ، ترامب الذى وصف فى أحد خطاباته الشعبوية حال أمريكا بأنه يشبه حالة انهيار الشركات الأمريكية العملاقة.
والحقيقة فالولايات المتحدة شركة بالمعنى الكامل، كانت فى السابق مرنة، قادرة على الخروج من أي أزمة، حتى لو كانت بحجم «حرب فيتنام»، أو «الكساد العظيم» أو الغرق، فى «الحرب العالمية الثانية ، ثم ما سمى بالحرب الكونية على الإرهاب»، وهى الآن غارقة فى مستنقعات العالم، ولم تنجح فى أفغانستان، ولا فى العراق، ولا فى «المناطق الساخنة » على امتداد القارات الست ، التى دعتها زورًا « حروب الديمقراطية ».
الشركة العملاقة المرنة، تقوم على مدخرات ثلاث ولايات هى: كاليفورنيا، وتكساس، ونيويورك، وبعضهم يزيد ولايتين هما: أريجون وألاسكا، وأياً كان عدد الولايات الغنية أو الفقيرة، فإن مسألة حاكم ولاية تكساس (جريج أبوت)، وتهديده بالانفصال عن أمريكا، وانضمام حكام 25 ولاية إلى مطالبته المشروعة بالحد من هجرة سكان المكسيك إلى تكساس، يؤكد أن دورة الزمن تصيب أمريكا، كما أصابت الإمبراطوريات السابقة، وكان مفكرو أمريكا قد حاولوا دراسة أسباب صعود وانهيار الإمبراطوريات القديمة ليتفادوا السقوط، وجاء على رأسهم المفكر بول كيندي، وفوكوياما ونظرية نهاية التاريخ .. فأمريكا التى تنتشر على مساحة جغرافية هائلة، بالقوة الناعمة والخشنة، وهى فلسفة تغاير وتختلف عن سياسة الآباء المؤسسين، فقد كانوا هاربين من جحيم أوروبا الكنسي البابوي والمذهبي والاجتماعي، ولم يفكروا فى استعادة النمط الأوروبي، القائم على حروب مستمرة لا تتوقف.
فالتمدد الأمريكي البراق تحول إلى معضلة مزمنة، لذا حاول ترامب العودة إلى ما بين المحيطين الأطلنطي والهادي، ونجح فى مسعاه، واهتزت القارة الأوروبية، وتخلخل حلف الناتو، ودفع مضطرًا مستحقاته المالية، ولا يزال ترامب يهاجم الناتو، نتيجة اعتماد أعضائه على حماية أمريكا الكاملة، وفى آخر تصريحاته كرر نفس الهجوم.
ولا شك أن ردود الحزب الديمقراطى بزعامة جو بايدن، وانزعاج القوى الأوروبية من تصريحات ترامب، ليست مجرد غضب عابر، بل وهى إدراك تام بأن هذا الرجل سوف يفعل، وقد فعل أثناء فترته الرئاسية الأولى، ولو كان قد قيض له أن يستمر فى فترة ثانية، لرأينا عالماً متعدد الأقطاب، تكون فيه أمريكا مجرد دولة قومية عظمى كالصين أو الهند أو روسيا، دون أن تتحول إلى «شرطى العالم»، أو «شرطى الأغنياء ».
ثمة مفارقة، هى أن أعداء ترامب الأشداء ليسوا من الأمريكيين فقط ، بل من ليبراليين دوليين، ينتشرون وكأنهم «ألتراس» أمريكي، يشجع على الحياة فى ظل الخيمة الأمريكية حتى لو كانت لا تتوقف عن الغزو، وإشعال الحروب، وصناعة القلاقل وصناعة الأزمات وإدارتها.
فى فترته الأولى كاد ترامب أن ينسحب من القواعد العسكرية، الموجودة خارج الأراضي الأمريكية، وقد أقدم على اتخاذ قرارات إستراتيجية ولم تنفذ، ولا أحد يعلم، هل تم الامتناع عن تنفيذ قرارات «رئيس» عن عمد أم بمحض المصادفة؟
وهكذا فعودة ترامب سوف تعيد «الصدام مع الصين » وستتسبب فى ضعف الناتو ، وقد تؤدي إلى عالم متعدد الأقطاب، وهكذا فعلى العالم أن يستعد للأمريكي الذى لا يشبه إلا نفسه، ولا تفكروا فى سقطات بايدن ونسيانه ، بل علينا أن ننتظر خطوات وشطط ترامب، ولو بعد قليل ، ولأن أمريكا مثقلة بمشاكلها فعلى الليبيين أن يتصالحوا ويعتمدوا على أنفسهم وأن يبنوا وطنهم وأن لا يعولوا كثيراً على الأجنبى فلكل دولة مشاكلها ولكل دولة مصالحها .