نقطة نظام
بقلم /فوزي البشتي
في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر هوجم الأدب بوصفه أثرا عنيفا من آثار الماضي ، كان ذلك بسبب تعاظم أهمية العلم وصعود عصر المنجزات الصناعية، ولقد قيل آنذاك إن الأدب لا يمثل سوى طفولة المجتمع المتحضر الذي باشر بالفعل في مغادرة هذه الطفولة نهائيا ودون حنين، وبالتالي فإن مراحله إحياء ذكريات المجتمع المتحضر ضرب من ضروب العبث واللا جدوى، ولكن مالبث أنصار هذه النظرية أن شاهدوا من يدافع بضراوة عن الأدب، كان هناك “شللي” وإلى جانبه “أرنولد” الذي رأى في الوظيفة الجمالية للأدب تجسيدا يسعى الإنسان خلف الحقيقة وأن العلم مهما ارتقى من قدرات خلاقة على الكشف لا يستطيع احتكار الحقيقة وحده، وإنه من المنطقي تماما أن يظل الأدب والشعر قادرين على تقديم هذه الحقيقة بالرغم من تقدم العلم وإحرازه للنجاحات الباهرة وفي تلك الصورة الحماسية للتحديث أثيرت التساؤلات حول نوع التعارض الافتراضي بين العلم والأدب وما إذا كان ثمة مكانة للأدب يمكن أن تبقى في عصر العلم.. وفي هذا السياق بدت الأسئلة الراهنة لنهايات القرن العشرين، الإبداع والتقنية من أرومة واحدة من أسئلة القرن الماضي، إذ ما انفك المبشرون بموت الإبداع الأدبي والفني يطلقون النبوءات ولشد ما يبدو الشعر الذي صارع الفلسفة منذ أيام أفلاطون حول قدرته على الكشف عن الحقيقة مروجا للصراع مع العلم حول المسألة ذاتها، فكما نازعت الفلسفة الشعر على القدرة والمكانة في الكشف عن الحقيقة يصارع العلم الشعر حول إمكانياته الفعلية في التعبير عن مسعى الإنسان لغرض سيطرته الخيالية على العالم، ولأن الأمر لا يتعلق بالشعر وحده فقد بشرنا النفاذ منذ ستينيات القرن الماضي بموت الرواية فيما هم يراقبون إحصاءات مشاهدي التلفزيون وأشرطة الفيديو والسينما ثم أطلقوا نبوءات شهيرة تقول بموت الكتابة وازدهار أشكال المشاهدة وأن المجتمع المعاصر لا يترك سوى هامش ضئيل أمام الفنون غير البصرية.. أما الكتابة بشكلها الراهن فإنها تتراجع لصالح أشكال أخرى قد تبدو اليوم غير منظورة ولكنها آيلة لا محالة إلى التبلور كأشكال ملائمة لعصر تقني..تستند حجة القائلين بموت الرواية في عصر التقدم التقني إلى الفكرة القائلة بأن الكثير من أشكال الإبداع التي يخلفها مستوى التطور في قوى الإنتاج تضمحل وتتلاشى، هذه القوى في لحظة معينة من التطور البشري التاريخي، فكما تراجعت ثم ماتت الملحمة بكل أشكالها التي عرفتها البشرية فإن الرواية بوصفها نتاج المجتمع الصناعي البورجوازي آيلة إلى الموت بتغير هذا المجتمع وانتقاله إلى صور من التقدم التقني.