منصة الصباح

هذا أنا

هذا أنا

جمعة بوكليب

زايد..ناقص

أنقذني الكاتب على باني، من دون أن يدري، من مشقة، أو بالأحرى من محنة مشاهدة “حفل ذبح”، أقيم صبيحة أول أيام عيد الأضحى، فوق سطح عمارة مجاورة لعمارتنا بالظهرة. كان كل من بالشقة قد غادروها فرحين مبتهجين، وتركوني وحيداً. فكان كتاب علي باني ” هذا أنا” نعم الأنيس والرفيق والصاحب.

رغم صدور الكتاب خلال فترة زمنية قريبة، إلا أنّه، للاسف الشديد، لم ينل، في رأيي، ما يستحق من اهتمام في الوسط الثقافي الليبي. ولا أعرف سبباً لذلك. وأُخمّنُ أن السبب ربما يعود إلى أن المؤلف، لأسباب عديدة، لم يقترب مسافة كافية ممن يشغلون الساحة الثقافية. وقد يعود ذلك ليس إلى عزوف متعمد منه، بل إلى كثرة انشغالاته الحياتية والمهنية. فهو، لمن لا يعرفه منكم، مهندس قدير ومرموق.

” هذا أنا” هو عنوانُ الكتاب الأول، الذي أصدره الكاتب علي باني على نفقته الخاصة، وقام بتصميم غلافه واخراجه المخرج الصحفي المخضرم مصطفى الأطيوش. فجاء أنيقاً في طباعته، تزيّن غلافه الأمامي صورة شخصية للمؤلف. تلك الصورة الشخصية رغم ابتسامة صاحبها وأناقته، تجعل القاريء يظن خطأ أن الكتاب سيرة شخصية للكاتب، لا تختلف عما قرأنا وسمعنا وعرفنا من سير ذاتية لكتّاب عرب وأجانب. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن السيرة الذاتية تشكل حيّزاً من الكتاب فقط. وفي أغلبه يضم مقالات، لا أعرف إن كانت منشورة من قبل أم لا، تتناول موضوعات وقضايا متنوّعة.

السيرة الذاتية المعنية بدت أكثر وضوحاً في فصليه الأول والثاني : الوجدان والبوح. إلا أن السيرة والمقالات جاءوا على شكل فصول تبدأ بالوجدان والبوح ومروراً بالعقل وختاماً بالروح. وهو تقسيم لافت ومثير للاهتمام. وتتميز بخفة دم ولاد المدينة القديمة، وابتكاراتهم المدهشة لغوياً ومصطلحاتهم وطريقة تعاملهم مع مفردات واقعهم الحياتي المختلف، وخاصة في الجزء السيروي. والأهمُّ من ذلك أن علياً امتلك معجمه اللغوي الخاص. وابتدع أسلوبه الكتابي.

“هذا أنا” هو علي باني، الكاتب والمهندس والانسان، وقد توغل في الزمن والحياة والعالم، ماضياً وحاضراً. ينتقي مفرداته بدقة، وينحت مجرى حكاياته السيرية وموضوعاته بذكاء وجمال. ويحرص أن يفعل ذلك من أقصر الطرق وأكثرها تعبيداً وإنارة، متخذا من السرد الحكائي أداة ووسيلة. وهو نهج ليس غريباً ولا جديداً، وليس سهلاً كما قد يعتقد البعض. هذا اولاً

أما ثانياً، من جهة أخرى، يتطلع كتاب “هذا أنا” على نحو ما، ضمن أشياء أخرى، إلى محاولة الكشف عن سيرة مدينة، وفي زمن صار عديدون يحرصون على وصفه بالزمن الجميل. ولا أعرف مدى انطباق الوصف على ذلك الزمن. لكنها النوستالجيا.

الجزء السيروي استهواني أكثر من غيره، وهذا لا ينفي عن بقية الموضوعات أهمتيها. الكاتب في ذلك الجزء حرص على مزج ذكريات طفولته بحياة المدينة، فبدا وكأنه، بشكل غير مباشر يتناول سيرتها. النوستالجيا واضحة بشكل لافت، وفي مقعد القيادة.

ويحرص عليُ على إعادة احياء الشخصيات الشعبية والمعالم والطرقات والأمثال والتعابير التي لم يعد لها وجود يذكر. لكنها ظلت حيّة في ذاكرة الطفل الذي كانه. ولذلك تبدو المدينة حاضرة في ثنايا الحكايات بشوارعها وأزقتها. وشخصياً أدهشتني ذاكرة المؤلف بما تختزنه من ذكريات عن المدينة، وعن مدارسها، ومعلميها، …الخ. ولفت اهتمامي عمق ارتباط علي باني بالتراث الشعبي للمدينة، وقدرته على استحضاره في كتاباته، بما يزيد من جمالية نصوصه، ويمنحها مذاقاً عذباً. وكأنه بذلك ينفخ من روحه على رماد الزمن، لكي يعيد للجمرات في قلوبنا ألق توهجها.

شاهد أيضاً

الحدود الليبية التونسية بين الحقيقة والخطاب الشعبوي

أحلام محمد الكميشي صرّح وزير الدفاع التونسي “خالد السهيلي” خلال حديثه أمام البرلمان التونسي الثلاثاء …