الصباح/ حمزة جبودة
مع ختام الموسم الرمضاني للأعمال الفنية الليبية والعربية، تنسج الآراء حول هذه الأعمال بعد عرض الحلقات الأخيرة منها، ومن ثم تتم عملية نقدها وِفقًا للقصص التي عرضتها هذه الأعمال إن كانت ذات طابع معاصر أو تاريخي أو كوميدي ودرامي.
نبدأ من مسلسل “مستقبل زاهر” الذي سيطر هذه العام على المشهد العام في ليبيا، ولاقى إعجابًا كبيرًا لقصته الواقعية التي رصدت ما كان ممنوعًا دراميًا.
تحدثنا في سلسلة مواد عن المسلسل، الذي كتبه وأخرجه نزار الحراري، بعد سنوات من غيابه عن المواسم الرمضانية، وهنا اليوم نحن نبحث ونتحدث ونطمح إلى ما بعد هذه التجربة الدرامية.
كسر “التابوهات” دراميًا في ليبيا
لاحظت إقبالاً واسعًا في ليبيا، على بعض الأعمال السورية والمصرية، ومنها المسلسل المصري لام شمسية” الذي يتناول قضايا هامة “التحرش- التنمر” ولكن في قالب جريء في الطرح والإخراج، وهذا الملف نعرف حساسيته في ليبيا.
لماذا ذكرت هذا المسلسل؟
ذكرت هذا العمل، لأننا يجب أن نسأل أنفسنا، لو تم طرح هذه القضايا في عمل درامي ليبي، هل سنقبله؟ أم أننا سنقول تلك الجُمل “مش ناقصين فضايح.. لازم يوقفو المسلسل.. دعوات لمقاطعة المسلسل.. وغيرها”.
بعد العام 2011 اتجهت أغلب الأعمال الليبية إلى التاريخ وإلى عصور لم تعد ذات اهتمام في ليبيا.
وعندما أقول ذلك، لا انتقص من قيمتها الفنية، بكل تأكيد كل عمل أيً كان نوعه، يجب أن ندعمه ونحترم تجربته، لكن ما نحتاجه دراميًا في ليبيا اليوم، هو الواقعية والمسؤولية في اختيار الملفات التي يجب أن تكون في قوالب درامية فيها جرعات مكاشفة للواقع تصل إلى ما هو أبعد وأعمق في آن.
خيال المتلقِّي لا حدود له
تجربة الدراما السورية على وجه الخصوص، بعد الحرب، تجربة ثرية أشبه بمدرسة جديدة في الدراما السياسية التي كسرت كل “التابوهات” مؤخرًا مع سقوط نظام بشار الأسد.
في مسلسل “البطل” مثالاً، ناقش بهدوء “مُرعب” ما هو أخطر من الحرب نفسها، كيف يُصبح المرءُ بطلاً بين ليلة وضُحاها؟
ثم يتورط أكثر فأكثر في عمليات، التهريب والسوق السوداء ويشعر بعدها بأنه أصبح ملكًا على قريته وعلى أهلها، كيف تتغير المبادئ وتختفي شيئًا فشيئًا دون أن نشعر، ونُصبح مجموعات بشرية تنهش في بعضها ولا ترحم أي أحد منها. إضافة إلى قضايا أخرى تناولها العمل ذات أهمية كبرى، في قصص الحب التي تنمو في الحروب وكيف تنتهي تلك القصص وكيف بدأت من الأساس؟
أسئلة في أسئلة موطنها الحقيقي في باطن العقل البشري، الذي يملك استعدادًا للتنازل عن أي شيء مقابل مصلحته ومصلحة من يحب فقط، وقد يكون التنازل باهضًا، لكن لا يهم، المهم المصلحة الشخصية.
في ليبيا، لا يمكننا القول اليوم أننا نملك أعمالاً درامية، لأننا مازلنا في المراحل التجريبية في هذه الصناعة المهمة، لأننا أغلب هذه الأعمال تذهب لفئة واحدة دون غيرها. والدراما لا تعترف بهذا المبدأ وإن كانت هذه الفئة فيها أفضل الكُتّاب والمخرجين ونجوم ونجمات الصف الأول.
ولا تنتهي العقبات عند هذا الحد، بل تمتد إلى اختيار ما يُعرض بالنسبة للشركات والقنوات المنتجة.
ولنِلعب الآن لُعبة الخيال الدرامي في ليبيا.
مشهد لسيارات عليها شعار “الدولة” تقتحم الاستراحات التي يقيم فيها “الوزراء الفاسدين” وتلقي القبض عليهم، تنطلق السيارات من تلك الاستراحات، إلى إحدى المواقع الأمنية السرية للتحقيق مع الفاسدين وترحيلهم إلى سجونمية عليها حراسات مشددة، تتجه كاميرات التصوير إلى بناية مكتوب على جدارها “مكتب النائب العام”، يدخل مجموعة من الضباط إلى اجتماع سري، يتم فيه إبلاغ النائب العام بأن مذكرات التوقيف تم تنفيذها.
يتدخل رئيس الحكومة، لإنهاء الأزمة، لكنه يصطدم بقرار يمنعه من مغادرة البلاد والإقامة الجبرية إلى حين انتهاء التحقيقات، والنظر في حكومته، إن كانت ستُحلّ ومحاسبته، أو تقييد حركته ونفقاته الرسمية والخاصة.
تنتهي هذه المشاهد في الحلقات الأولى، بعدها تتجه القصة إلى الشارع، الذي يستقبل هذه الأخبار بفرح كبير، ويطالب بمحاسبة الفاسدين أمام الرأي العام وإعدامهم بعدها أمام الليبيين والليبيات، إن ثبُت تورطهم في قضايا كبرى لا تقبل أي إضافات.
ينتهِ هنا الخيال
وأنا على يقين، أن لكل ليبيّ وليبية، خيال يطمح لأن يراه واقعا في دراما بلده، أن يرى أنهم انتصروا على الفساد والخراب ولو دراميًا على شاشات القنوات والمنصات الرقمية. لأن الواقع أكبر منهم، لأن الواقع المأساوي أصبح يحتلّ حياتهم في كل تفاصيلها.
هذه “الهدرزة” عن الأعمال الدرامية، ليست للترفيه، ليست للمتعة فقط، ومن مازال يعتقد أن الدراما وغيرها من الأعمال الفنية، هي أعمال ترفيهية فعليه مراجعة آراءه، دول كاملة تتجه إلى الإنتاج الفني، لأنها أصبحت صناعة هامة لا تقل أهمية عن أي صناعات كبرى أخرى. حتى مفهوم “القوى الناعمة” عن الفنون، لم يعد كما كنا نعرفه، فالفنون أصبحت قوة فتّاكة قادرة على تغيير المفاهيم وتمرير أخرى وتوجيه الآراء بطريقة بسيطة وسلِسة، تصل إلى الجميع.