منصة الصباح

فرنسا استعمارية نيوكولونيالية

فرنسا استعمارية نيوكولونيالية

بقلم: علي الدلالي

تسلم رصدنا من بين أبرز الرسائل التي وجهها الرئيس الفرنسي أمانويل ماكرون، خلال جولته الأفريقية الأسبوع الماضي التي شملت أربع دول أفريقية، هي الغابون والكونغو الديمقراطية والكونغو وأنغولا، الرسالة التي أطلقها من ليبرفيل، عاصمة الغابون خلال لقائه الجالية الفرنسية وعنوانها ” عهد فرنسا الأفريقية انتهي”.

لم تكن فرنسا أفريقية يوما، يا سيادة الرئيس، كما تحاول أن تسرب من خلال رسائلك الشعبوية المضللة ولكن كانت فرنسا استعمارية واليوم نيوكولونيالية احتلت جزءا كبيرا من القارة الأفريقية ونهبت ثروات الأفارقة ولا تزال، وفرضت عليهم ثقافات دخيلة ونمط حياة لم يألفوه، وتدخلت حتى في نظام غذائهم وفي لباسهم، ناهيك عن قيامها مع الدول الإستعمارية الأخرى وبخاصة بريطانيا بفرض حدود على الشعوب الأفريقية شتت القبائل وقطعت أوصال القارة ولا تزال تلك الحدود المصطنعة إلى اليوم من الأسباب الرئيسية لسفك الدم الأفريقي ومصدرا للاضطرابات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية.

زرت بحكم طبيعة عملي معظم الدول الأفريقية، وأكثر زياراتي كانت إلى السنغال الجميلة التي أعشقها وعشت بين أهلها منذ ثمانينيات القرن الماضي، وعند زيارتي الأولى لها لاحظت حب السنغاليين لطبق “تشيبوديان” (Thiboudienne)، وهو الطبق الشعبي الأول في هذه البلاد الواقعة على المحيط الأطلسي ويتكون أساسا من السمك الطازج أو المجفف والأرز والخضار. غير أنه لفت إنتباهي نوعية الأرز الصغير المجروش أو ما نسميه ” المدشش” في هذه الأكلة.

لم يكن للأرز وجود في المطبع السنغالي والأفريقي عموما قبل الإستعمار ولكن جاءت به فرنسا من مستعمراتها في الهند الصينية للسيطرة على الأسواق الأفريقية وتغيير النظام الغذائي للسنغاليين بعد أن حاربت زراعة الميل (Mil) والسورغو(ٍSorgho) والدخن (Millet) التي لا تتطلب كثيرا من المياه وجعلت الأفارقة إلى اليوم يستوردون غذاءهم من الخارج.

أما ما يتعلق بـ “الأرز المجروش”، فتلك قصة صادمة حيث كانت فرنسا الإستعمارية العنصرية وشركاتها الإستغلالية تورًد للسنغاليين الأرز الذي يتساقط على الأرض عند التعبئة ويتم جمعه بالمقشات. ويحبذ السنغاليون إلى اليوم تلك النوعية من الأرز ويستوردونه مجروشا ولكن ليس ذلك الذي كانت تجمعه المكانس الفرنسية.

لقد تأخرت فرنسا وساستها في ترميم صورة الاحتلال الغاشم للشعوب الأفريقية كثيرا ونعتقد أن استراتيجية ماكرون للترويج لفرنسا جديدة وُلدت ميتة لسببين رئيسيين، أولهما اتساع الهوة بين الشعوب الأفريقية التي لن تنسى أبدا دعم فرنسا منذ اجبارها على وضع حد للإستعمار المباشر لحكام مستبدين يحملون في قلوبهم الولاء والطاعة لفرنسا على حساب شعوبهم وثروات بلدانهم، وثانيهما منافسة فرنسا من قبل قوى عظمى منها روسيا والصين تحديدا، وكذلك من قبل دول أفريقية، من بينها المغرب، بدأت تحقق نجاحات من خلال ترقية التعاون الأفرو- أفريقي.

يُنسب إطلاق تعبير “فرنسا الأفريقية” (la Françafrique)، إلى فيليكس هوفوات بوانييه الذي عمل وزيرا في عدة حكومات فرنسية قبل أن تنصبه فرنسا رئيسا على ساحل العاج (كوت ديفوار) منذ ما سُمي بالإستقلال عام 1960 إلى وفاته عام 1993، وهو عميل فرنسي بامتياز، وجاءت التسمية لتعكس، زورا، رغبة رؤساء الدول التي استقلت عن فرنسا في الحفاظ على علاقات مميزة مع دولة الاحتلال، إلا أن هذا اللفظ بات يحمل معنى الإزدراء بعد صدور كتاب فرانسوا كسافياي فارشاف (François-Xavier Verchave– 1945 -2005)، عام 1998 تحت عنوان (فرنسا الأفريقية : أطول فضيحة للجمهورية)، للتنديد بالسياسة الخارجية لفرنسا في المستعمرات الأفريقية السابقة وفي عموم القارة.

لا يُمكن أن تقبل الشعوب الأفريقية إلا بفرنسا التي تعتذر علنا عن عشرات السنيين من الاحتلال البغيض وقتل ملايين الأفارقة وتدمير ثقافتهم ونهب ثرواتهم، وبفرنسا التي تجلس لحل ملف أوجاع الذاكرة، وبفرنسا التي تتحلى ببعض الشجاعة لتطلب العفو والصفح من كافة الشعوب الأفريقية التي احتلت أرضهم بالقوة، وبفرنسا التي تكف عن نهب ثروات القارة الأفريقية، وبفرنسا التي تتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، وبفرنسا التي تنظر إلينا بطريقة أخرى باحترام كشريك حقيقي وأن تكف عن النظر إلينا بنظرة تحمل الإحتقار، كما قال رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي خلال المؤتمر الصحفي مع الرئيس ماكرون الذي توهم، خلال هذه الجولة، بأن تاريخ فرنسا الإستعماري العنصري البغيض يمكن تنظيفه بشطب عبارة من القاموس السياسي الفرنسي.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …