محمود البوسيفي
يستهويني الوقوف أمام البحر، بينما البحر يهطل برشاقة تقترب من الموسيقى، أشعر وأنا أتبلل برغبة في الغناء أو الضحك، ومشهد النوارس وهي تصنع إيقاعًا للقاء بين العذوبة والملح، يغرقني في دفء أكاد أسمع معه هسهسة النار في كانون طين قديم، يا للدهشة.. كيف بمقدور هذا الطائر الصديق احتمال كل هذا الصقيع.. كيف يحرك جناحيه بأناقة آسرة والماء من فوقه ومن تحته.
كنت ذات عشية مع أحد الاصدقاء العرب نقف قبالة البحر في إحدى مناطق طرابلس، وكان يحدثني عن الاستثمارات الهائلة التي يمكن إقامتها على هذا الساحل الاستثنائي الممتد لألفي كيلومتر، فيما كنت أرحل بعيدًا في الدهشة، فالطائر الأبيض ظلّ منذ فجر الخليقة مفتاح اليابسة، يعرفه البحارة وهم يهجسون بالموانئ، وتعرفه النساء العاشقات وهن يلوحن بمناديلهن في مرافئ اللوعة، يا للدهشة كانت رؤيته من بعيد تعيد صياغة الألوان في الأحداق المكدودة من سطوة الأزرق المهيب، وكان تحليقه الفاتن يشكل مستودعًا يلهم الفنانين والشعراء وأولئك الذين يلوذون بالقلب وطنًا ومنفى.. كان صديقي يتحدث عن منتجعات ونوادٍ بحرية وفنادق ومصائف وأحواض ومصانع وملاعب الخ.. وكنت أهدهد الخاطر بأن زبد الموج من لونه، وأنه سيعزف نهاوند الرفرفة طريقًا إلى الأشرعة المرحة وألواح التزحلق وشرفات النعاس في ليالي الشتاء.. وأنه لا خوف عليه مادام ثمة بحر وسفن تروم الأرصفة.
مازلت أحتفظ بشريط موسيقي اهداه لي الفنان التشكيلي الصديق علي الزويك قبل عقد ليس به سوى تكسر الأمواج على صخور صامتة، مع تردد ساحر لصوت ذلك الطائر البهي.. كنت ألجأ للاستماع له كلما امتلأ القلب بالوجع أو حاصرني القبح والفجاجة..
ومازال يروقني كثيرًا وأنا أقف قبالة التلاحق المثير للموجات الصغيرة تحت مطر صديق .. أن أراقب حركة النوارس وهي توقع طيرانها على إيقاعات الماء بدقة مايسترو ماهر يقود حديقة من كمانات لا تعرف يقينًا مدى حزنها أو غبطتها.
يهطل المطر مثلما تهطل الموسيقى٠ في القلب، مثلما تغمرك شهقة الماء.. مثلما الصلاة.. حيث لا قلق.. أمة النوارس أمة صديقة لبنى البشر, لم يحدث أن هاجمت صيادًا يحرقه ترقب اللمسة الصائدة، أو مزقت شراعًا.. لم يحدث أن فزعت أطفالنا يقترحون الرمل بيوتًا وملاعب.. أو صبايا يتلفعن بالقهقهات.. لم يحدث عبر الأزمان السحيقة أن باغتتنا النوارس بغير الندى والحنين.. حتى الإنسان توقف عن محاولة اصطيادها بعد أن تأكد أن لحمها مر.. كلحمه.