منصة الصباح

نصّ طويل عن قلق الكتابة

محمد الهادي الجزيري

ورّطني الكتاب في أبوابه وفقراته حقيقة، ففي كلّ فصل منه أتعثّر بكلمة أو ملاحظة هامّة..وأجدني مضطرا لنقلها إلى مقالتي..، في النهاية قررت اختيار أجمل الجمل والتعليق عليها حتّى لا أظلم الكاتب المغربي محمد رمصيص في مجهوده الفكري والإبداعي ..فالحقّ أنّه أجاد الطرح والأسلوب وقسّم ” قلق الكتابة ” بطريقة تسمح له بالعناية بكلّ فصل كما يجب وحسب ما تستوجبه الضرورة…

افتتح الصديق المغربي محمد رمصيص الكتاب بنصّ عن قلق الكتابة ..وهذا ما حفّزني على القراءة فالموضوع هام ودقيق..، وما بدأ الكاتب به إلا لأنّه مصبّ الفصول الأخرى لهذا المتن الفكري الإبداعي ..ذلك أنّ القلق جامع للموت والمرأة والسجن وغيرها من المواضيع الأخرى المرتبطة بالكتابة ..لذا أفلح في اختياره ووفّق في صياغته وجعله باب يسهل منه العبور لكلّ الفقرات التالية:

قلق الكتابة لهذه الاعتبارات حيرة فكرية وإعصار تأملي جارف، مخاض عسير مصحوب بأوجاع لا قرار لها،وبسبب ذلك له ثمنه الباهظ. إن الكاتب القلق يرغب دوما في جعل تحققه النصي احتفالا وعرسا منقوصا لأن أثره في الأساس غواية تبدأ لكي لا تنتهي..سفر خلف قطار الجدة بل ومغامرة لا نملك فيها تذكرة العودة.. إن أهم مكسب من قلق الكتابة هو جعل الذات تتساءل إلى أي حد تنمو وتتطور؟ فالعمر يتقدم بنا لكن لحظات النمو نادرة جدا

أمّا الباب المثير المزعج فهو باب الكتابة والموت، فقد أفلح في الدخول إليه، فلا شيء أبغض من هادم اللذات ومفرّق الجماعات ..إلاّ أنّ محمد رمصيص أجاد التسلّل له بما مُنح من جزالة اللغة ورشاقة الأسلوب ..، فصار واحدا منّا ..يتحدّث مثلنا ..

ما أروع الإنسان حين يبدع ويجّمل كلّ قبيح ومشوّه يعد الموت عملية محو لكل ما يعترض سبيله باستثناء الكتابة. إذ أن سواد حبر الميت يعيد الحياة لبياض الورقة كلما قرأنا أثره…

تتوالى الفصول من المرأة والكتابة إلى مواضيع أخرى مثل الكتابة عن الذات والحبّ والألم والذاكرة والكتابة بلغة الآخر..ويتوقف بنا في فصل أثار الكثير من الجدل وساهم في تحريك الأقلام وكُتب عنه العديد من الدراسات والبحوث..، هذا هو فصل الكتابة بالبياض ..وذكّرني أنّنا في مفتتح الثمانينات ناقشنا هذا الأمر..نظرا لتهافت الشعراء على كتابته ممّا أثار غضب المتشدّدين في اللغة ..، ولا شكّ أنّ عديد الأقطار العربية شاهدت صراعا مثل هذا..، على كلّ طرح محمد رمصيص الموضوع من جميع جوانبه وبحث له عن أسباب وترك الباب المفتوح لمن يشاء أن يضيف لهذا اللغز حلولا أخرى…

لكن لنتساءل بداية هل الكتابة بالبياض قدرة أم عجز، مواجهة أم هروب، جرأة أم خوف، حضور أم غياب؟وهل بياض الكاتب هو بياض القارئ؟وأين تكمن صعوبة إيصال البياض، هل في غرابة معناه على القارئ التقليدي أم في مجانيته عند بعض الكتاب؟ومتى يمكن اعتبار الحبر والبياض نغما كتابيا يعطي الورقة إيقاعا؟وإذا كان الصمت ملونا للكلام فهل يمكن اعتبار المعادلة صحيحة في مقام الحبر والبياض؟وبأي معنى اعتبر البعض إقحام البياض على النص مجرد بذخ جمالي دون وجه حق؟وهل البياض دلالة على حيرة المبدع أم دلالة على عجز الكلمات عن قول أحشائه؟

حقيقة كتاب ” قلق الكتابة ” متن قيّم وبديع ..، سافر فيه الكاتب بين مختلف الحرائق والحدائق التّي تحيط بالمبدع ..وأجمل شيء نختم هذه الإطلالة ما كتبه في باب الكتابة والحرية منتصرا لكلّ من يحبّر أوراقا ..لكلّ من يكتب

إذا كانت سلطة الأنظمة تمتلك قوة الإرغام والإكراه المادي والمعنوي فإن الكاتب يمتلك سلطة الكلمة وقوة الرأي الذي يمنحه امتدادا في التاريخ وتجذرا في الوجدان العام. فلا الذين أعدموا سقراط توفقوا في خنق صوته، ولا الذين قتلوا غاليلي استطاعوا إيقاف تصوره للكون. ولا الذين أحرقوا كتب ابن رشد حدوا من انتشار تفكيره التنويري..وقس على ذلك سلطة المثقفين الكبار الذين يستحيي منهم الموت لأنهم أحياء بيننا متوهجين. صحيح أن الكتابة تحتاج لأدوات السياسي قصد تحقيق حلمها، لكن السياسي في حاجة أكبر للمثقف…

 

 

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …