منصة الصباح
د. مجدي الشارف الشبعاني

نحو ميثاق للإعلام الأمني ، بيان ما (ينشر وما يستر)…..

د. مجدي الشبعاني

أستاذ القانون العام – الأكاديمية الليبية
عضو المجلس العلمي بمركز الدراسات والبحوث الجنائية

في الآونة الأخيرة، يُلاحظ لجوء بعض الأجهزة الأمنية إلى نشر مواد إعلامية تتضمن اعترافات لنساء في قضايا ذات طابع أخلاقي، قبل استكمال المسار القضائي، وبخطاب يتجاوز مجرد الإخبار عن واقعة الضبط إلى توصيفات معيارية تمس السمعة والكرامة الإنسانية.

ويثير هذا المسلك إشكالًا دستوريًا مركزيًا يتعلق بحدود سلطة الدولة في التواصل العام، ومدى التزامها بمبدأ قرينة البراءة، وواجبها في حماية الحقوق والحريات الأساسية، وفي مقدمتها الحق في الخصوصية وصون الكرامة.

ولا خلاف على أن حماية الأمن العام وصون السلم الاجتماعي من صميم وظائف الدولة، ولا جدال في أن للأجهزة الأمنية، متى قامت دلائل جدية، أن تباشر مهام الضبط والتحري والتدخل لمنع الجريمة قبل وقوعها أو لوقف آثارها بعد حدوثها. فهذه الصلاحيات ليست منحة، بل واجب تفرضه القوانين الوطنية وتقرّه المعايير الدولية.
غير أن الإشكال لا يثور غالبًا حول مشروعية الإجراء الأمني في ذاته، وإنما يتمركز حول كيفية ممارسته، وحدود الإعلان عنه، واللغة المصاحبة له، وهي عناصر لا تقل خطورة عن الفعل الأمني نفسه.

فمن حيث الأصل، تُعد أي عملية ضبط تتم تحت إشراف النيابة العامة، أو في نطاق الاستدلال المقرر قانونًا، إجراءً صحيحًا ومشروعًا ما دامت قد احترمت الضمانات الإجرائية ولم تنطوِ على تعسف أو إساءة استعمال سلطة. غير أن الانتقال من الفعل الأمني إلى النشر الإعلامي التفصيلي يضعنا أمام ميزان مختلف تحكمه مبادئ دستورية وحقوقية دقيقة، في مقدمتها مبدأ قرينة البراءة، الذي يقتضي عدم تقديم أي شخص للرأي العام باعتباره مدانًا أو خطرًا أخلاقيًا قبل صدور حكم قضائي بات. فالقانون لا يحاكم عبر المنصات، ولا تُصدر العدالة أحكامها بلغة البيانات الأمنية.

ومن منظور دستوري، لا يُنظر إلى إنفاذ القانون بوصفه غاية منفصلة عن ضمانات العدالة، بل كوظيفة مقيدة بجملة من المبادئ الحاكمة، أهمها أن الاختصاص في توصيف الفعل، وإسناد المسؤولية، وتقدير الجزاء، ينعقد حصريًا للسلطة القضائية. أما تحويل الوقائع محل التحقيق إلى مادة إعلامية مشبعة بأحكام أخلاقية أو دينية، فيُعد خروجًا عن مبدأ الفصل بين السلطات، وتوسيعًا غير مشروع لوظيفة الضبط على حساب وظيفة القضاء، بما يمس جوهر سيادة القانون.

وفي هذا السياق، يلتقي المنظور الدستوري مع المقاصد الشرعية في نقطة جوهرية، هي عدم إحياء الباطل بإشاعته، وهو المعنى الذي يُفهم من مقولة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أميتوا الباطل بالسكوت عنه»، لا باعتبارها تعطيلًا للمساءلة أو تهاونًا في إنكار المنكر، وإنما رفضًا لتحويل الخطأ الفردي إلى خطاب عام يضاعف الضرر. فالدستور، كما الشريعة، لا يحمي المجتمع عبر التشهير، بل عبر مسار قانوني منضبط يحقق الردع دون انتهاك الحقوق، ويوازن بين المصلحة العامة وصون الكرامة الإنسانية.

أما من الزاوية الشرعية، فإن القاعدة المستقرة تقوم على الستر لا التشهير، وعلى درء العقوبة بالشبهة، وعلى أن إثبات الجرائم وضبط توصيفها مناط بالقضاء لا بالروايات المتداولة. فالغاية من إنفاذ العدالة في المنظور الشرعي ليست الفضح ولا الإيذاء المعنوي، وإنما الإصلاح وحماية المجتمع مع حفظ الأعراض والحقوق.

وتتجاوز آثار النشر غير المنضبط الشخص المعني إلى محيطه الأسري والاجتماعي، وقد تُحدث صدمة نفسية عميقة، وتترك وصمة دائمة حتى في حال البراءة أو تغيير الوصف القانوني لاحقًا. كما أن تعميم خطاب التخويف والوصم يُسهم في إضعاف الثقة بين المواطن والمؤسسة، وهو أثر معاكس تمامًا لما يُفترض أن تحققه الدولة عند إنفاذ القانون.

ومن ثمّ، فإن المقاربة الرشيدة تقتضي الفصل الواضح بين نجاح العملية الأمنية – وهو أمر يُحسب للقائمين بها – وبين أسلوب الإعلان عنها، الذي ينبغي أن يظل في حدوده المهنية المطلوبة والتي تتطلب
(خبر مختصر، بلا صور، بلا أسماء، بلا توصيفات أخلاقية أو دينية، مع إحالة الأمر برمته إلى النيابة العامة والقضاء المختص).

فالدولة القوية لا تحتاج إلى المبالغة في خطابها، ولا إلى كسب المعركة إعلاميًا قبل أن تُحسم قانونًا. قوتها الحقيقية تتجلى في احترامها للقانون حتى وهي تواجه الانحراف، وفي قدرتها على حماية المجتمع دون أن تفرّط في الحقوق أو تهدر الضمانات. وإن إنفاذ الأمن والعدالة ليس سباقًا في الخطاب، بل التزام هادئ بالقانون، وكل خروج عن هذا الميزان الدقيق – ولو بحسن نية – قد يُفرغ الفعل المشروع من قيمته، ويحوّل الإنجاز إلى موضع جدل لا ضرورة له.

ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى اعتماد ميثاق وطني للإعلام الأمني، يوازن بين مقتضيات الأمن وضمانات العدالة، ويحصّن الدولة من الانزلاق إلى التشهير باسم الردع.

شاهد أيضاً

علماء يكتشفون علاقة بين فصيلة الدم والسكتة الدماغية المبكرة

علماء يكتشفون علاقة بين فصيلة الدم والسكتة الدماغية المبكرة

كشفت دراسة علمية حديثة عن وجود ارتباط بين فصيلة الدم واحتمالية الإصابة بالسكتة الدماغية قبل …