زايد..ناقص
بقلم / جمعة بوكليب
كاتب بريطاني اسمه جون بايرز، لا أعرفه. تعثرتُ به، ذات يوم، صدفةً، في فقرة وجدتها مكتوبة باسمه في مجلة يقول فيها «إننا في اللحظة التي نتحدث فيها عن التاريخ ، نواجه مشكلة تحديد موقعه. التاريخ ، نحن نميل إلى التفكير ، بأنه وراءنا ومن حولنا ، هيكل نسكنه ويشكلنا. هذه الحقيقة الجزئية تحجب حقيقة أكثر حميمية. التاريخ موجود فينا، إنه ينشأ مباشرة من أفعالنا وخياراتنا.»
إذا كان ما فهمته صحيحاً، فإنني أعتبر ماقاله بمثابة دعوة مفتوحة لنا، جميعاً، نحن الليبيون، إلى الانتباه والاهتمام، لاعادة التفكير برويّة في حياتنا وأفعالنا وخياراتنا. الأمر لايقتصر على الزمن الحاضر وفوضاه المرعبة، بل، أيضاً، يطال الماضي. أي مراجعة افعالنا وخياراتنا، على أمل أن نتمكن من الوقوف ، بأقدامنا، على أرض غير رخوة، تساعدنا على فهم واستيعاب المأزق الحالي الذي يحاصرنا بين جدرانه.
وبالنسبة لي شخصياً، فإنني أعتبر العلاقة بيننا ، نحن الليبيون، وبين التاريخ قد تكون غير موجودة. لكن ذلك لا يعني عدم وجود علاقة واقعياً. فاستناداً إلى ماقاله بايرز يتضح أننا نمر كمجتمع بمرحلة تاريخية وضعتنا الظروف فيها دون أن نعي تماماً صعوبة ما تطرحه علينا من خيارات في واقع مازال على بعد مسافة بعيدة من الواقع الانساني المعاصر، والوعي الحضاري.
الوعي بالذات، وبالتاريخ، وبالذات التاريخية فعل حضاري، أكثر تعقيداً من بساطة ووضوح مفردات واقعنا المحلي واشكالات انسانه المتعددة. الوعي هو ما يفرق بين الحالتين. الوعي بالواقع، وبالخيارات هو ما يصنع التاريخ. ولأن التاريخ بدون الوعي لا يصبح فعلاً استجوابياً بل تهرباً، يقوم على وَهْمِ محو تاريخ الآخرين.
التهرب هو ما نفعله نحن وبتعمد، بإصرارنا على الهروب للأمام هرباً من مواجهة ما يطرحه علينا الحاضر باشكالاته وتعقيداته، وقبله الماضي، من أسئلة. وعلى سبيل المثال، فإن العديد مما حدث ويحدث منذ فبراير 2011 من اشكالات واحتراب له علاقة مباشرة بأحداث حدثت من عقود زمنية مضت، لكنها ظلت في حالة بيات، حتى واتتها الظروف فانبثقت على سطح الواقع من جديد، وأمسكت بخيوطه ، وببوصلة تحدد تفاصيل خطوط سيره .
وهذا يعني أن علاقتنا بالحاضر، وبالمستقبل لم تتشكل بعد. وأن علاقتنا بالماضي، بتضاريسه القبلية وثاراتها، والجهوي ونعراته، مازالت تتوالد وتتكاثر وتفرض حضورها في الزمن الحاضر.
التاريخ كما يقول بايرز ليس من ورائنا ومن حولنا. وليس ما نسكنه ويشكلنا. إنه ما نصنعه نحن بأفعالنا أولاً، ثم بخياراتنا ثانياً. وعلى هذا النحو، يمكنني القول، من وجهة نظر شخصية جداً، إننا مازلنا في الطور الأول، أي في طور فهم يقوم ويتأسس على أن التاريخ من ورائنا ومن حولنا، ولم نخرج بعد من هذه الحقبة، أوالفهم إلى تفكير واع ومدرك، وأكثر التصاقا بالعصر وامكاناته واشكالاته، وما يخلقه من وعي في الذات الانسانية القادرة على صنع التاريخ بالفعل وبالاختيار، أي برغبة نزع القشرة الخارجية المتشكلة حول عقولنا،عبر الزمن، بهدف دفعها للخوض في مسارات الواقع المعاصر، وتحريضها على الاشتجار مع ما يطرحه من أسئلة، وما يعانيه من اشكالات، ومحاولة فهم آفاق الرؤى المستقبلية التي يطرحها.
لكن قبل البدء، علينا أن ننحاز، أولاً، إلى واحدة من طريقين: أولى تؤكد على أحقيتنا في أن نصنع – بوعي أفعالنا وخياراتنا – تاريخنا، ونعيد كتابته، من جديد، وهي طريق صعبة، وكثيرة المنعطفات والمنزلقات. وثانية، سهلة ومنبسطة، وتقود إلى تفضيل أن نتركه للأغراب يخوضون فيه، صعوداً وهبوطاً، من دون أن نحرك أصبعاً.