منصة الصباح

“مِنْ رَحِم الكون، يَلِدكَ الشِعْرُ مرَّتين”.. رِفقة الشاعر إياد حمَّودة

حاوره : مهد شريفة

إياد حمودة، شاعر بل لربما قد تخطى مأزق التعريف الكلاسيكي لماهية الشاعر فهو استطاع أن يسكن البحر في أحشاء لغته، يخرج كل ليلة متأنقا بيقين نبي أن الصباح قد حل وعلى كان الكهوف النجاة بجلدهم يحمل أمواجه على كتفيه كمن يفكك القسوة بمسمار جحا وهو إبن دمشق، تلك المدينة التي يمارس الياسمين فيها مشيئته المطلقة فلا يذبل إلا منتصبا، وتتربص الحرب بأبوابها العشر… دمشق العصية على الرحيل، فعبر حكايا أزقتها يمضي باحثا عن رئة ثالثة تقيه شظف العودة حيا بعد رحلة موت تؤجلها الآلهة، وقدم ثالثة تساعد الوصول على الوصول لمنزل طفولته ليبكي على حجر أمه،

” تطل على المدينة.. .

من غرفة الغراب..

تمشط بأظافرك.. القرميد البارد “

إنه على ما بدا لنا ليس ممن ينتظرون المطر ففكرة الانتظار ذاتها لا تشغله بالقدر المؤرق، إنما يرتدي محنة المشي على ندوب الزمن حتى القفز لا يستفزه كثيرا ويعري جسد القصيدة أمام جغرافيا المدينة بجراح أمسه وأكاذيب غده …

لا تشرب.. الماء..”

 فهو منذ الأزل.. ماء”

وجاء تعرضه لشم عقارب الساعة يلوي حقيقة الماء من عذوبته

ففي مشاهد له نراه على الشاطيء يهمس في آذان الرمال ويبوح للأسماك الطازجة بما أسره عن حبيبته القديمة.. وانطلاقا من هذا السمو أجرينا معه هذا الحوار الشائق.

كيف تعيش مخاض القصيدة هل تربت على سرتها بحنو أب أم أن قلمك يقسو كأي شريد قشر التفاحة بأظافر متسخة؟ ثم أحقا يكون للقصيدة ولادة تنز دما وعرقا ؟

القصيدة وليدة موران داخلئ سري ومحموم يصل في لحظة ما إلى ذروته ، يضيق عليه الجلد ويتصادم مع التمهل في تصييره إلى قصيدة ، أظن أنني أكون مأخوذا .. مسروقا بشكل ما عندما يكون ثمة ما أريد كتابته.. ليس للقصيدة مخاض كما أظن بل رعشة .. رعشة سارية ومستمرة.

– تاريخ ولادة القصيدة أمن الضروري تدوينه على روزنامة الزمن أم أنك تعمد إلى تجاهله كونك تجد الفرصة للغدر بالزمن أم هو افراط يمارسه وعيك عن يقظة؟

لا ألتزم بمسألة تدوين تاريخ زمني أو مكاني للقصيدة.. يأتي ذلك بشكل عفوي ضمن سياق الحالة ، القصيدة ضد الزمن بكل تأكيد.. ضد ساعات اليد والساعات الجدارية، في المسودات أدون التاريخ غالبا وأهمله عند النشر أو الطباعة.. أرى وقتها أنه بلا فائدة أو معنى والأجدى أن يكون الشعر حصان سباق يقفز بك فوق كل الأزمنة ..تلك الفكرة تكون نهائية وحاسمة في آخر الأمر.

لمَ لم تفكر في الفرار؟ هل تخشى أن يكون فرارك خيانة لذاكرة المكان؟ وتواطؤا فاضحا مع الحرب ؟

هل الفرار جغرافي؟ إذا كان جغرافيا فأنا حقا لم أفر ، إن لم يكن جغرافيا فأنا فار منذ ولادتي، لم تكن فكرة الذهاب بعيدا غائبة ولا حاضرة تماما في النهاية بقيت من أجل امرأة أحببتها ، فكرة أن أصبح لاجئا أو منفيا كانت فكرة ترعبني ولم أشعر أنني أستطيع أن أطيقها على صعيد نفسي أو عاطفي ، كانت بلا شك ستتحول إلى صليب على ظهري .. فضلت البقاء .. البقاء من أجل امرأة أحبها .. بدا لي عملا فروسيا وأكثر شرفا ..الحرب هي الحرب سواء كانت رشقة رصاص أو حرب عالمية، الحرب خثرة في جسدك أينما ذهبت.

احتماءك بالشعر أهو راجع لعجز ما تحاول تداركه بالكلمات ؟ لعلها طريقة إرتأيت جدواها كأن تفسر أحلامك على الأوراق ؟

الاحتماء؟!

تبدو فكرة ملتبسة جدا .. هل أنا أحتمي أم أن الشعر هو جواد فضي أرتقى صهوته وأنطلق في كل اتجاه؟ أظن أن طبيعة الشعر لا تضوي على مادة الأمان أو الطمأنينة ، هو أقرب إلى سلك مرتفع في خيمة سيرك يسير عليه البهلوان بلا وسيلة حماية لكنه بهلوان حي يعيش مشاعره وانفعالاته بحرية وتدفق.. هناك أدرينالين هائل في جسد الشعر يمنعه من أن يكون راكنا أوساكنا ويمنعك بالضرورة من أن تكون كذلك

في الشعر لا بد أن تكسر المرايا العادية.. وتستبدلها بمرآة غير أمينة قد لا تبدو فيها الأشياء جميلة بالمعاني المعتادة ولكنها مدهشة وعميقة.

على خلفية خبر مرض صديقتنا الشاعرة «سامية ساسي» ، كتبت لها رسالة مفتوحة أخبرتها فيها بأنكما شريكان في البحر والهواء وأن عليها التسلح بحق العودة ثانية بثياب مبللة بالندى وريح يضوع منها الحبق، هل كتبت ما كتبت انطلاقا من حتمية أن سامية تمسك بالنهار من ذراعيه وبأن خيوط لعبته تزهر على صدرها ؟

سامية شاعرة صديقة .. منذ زمن نقرأ كل ما يكتبه الآخر.. نتبادل رسائل شعرية ومكاتبات قيمة وأراء وأفكار.. نتشارك البحر وعزلات الشاطئ وإيحاءات الأفق كل من مكانه أنا من شرق المتوسط وهي من جنوبه .. بين دمشق وقرطاج نرسل ذلك الزورق الورقي العصي على الهلاك.. ورسالتي لها لم تكن شيئا جديدا ولكن هذه المرة كان عيار الشجن واللاتصديق فيها مرتفعا.. كتبت لها ما كنت أحب أن تكتبه لي لو تبادلنا الحكاية وتمنيت منها ورجوتها أن تظهر كل الشجاعة التي أعرف أنها تمتلكها .. لأنني كنت لأفعل المثل وكانت ستطلب مني مثل ذلك ، بعدما كتبت الرسالة رفضت أن أحزن. خجلت وقد كتبت هي بنفسها أنها تحاول أن تحذف السرطان كأنه كلمة خاطئة..بابتسامة..بابتسامة وحسب.. حيث الابتسامة هي أعلى عيار من الإرادة.

متى أدركت فعلا بأنك قد انكسرت رغم أن القصيدة إزاءك تبشر بنبوتك المستحيلة ؟

كإنسان محكوم بالفناء..کشرقي..كعربي ..کسوري أنا مكسور منذ البدء ..مكسور ومنكسر..كل صباح علي أن أعيد ترتيب عظامي وخياطة جلدي وإيواء روحي من جديد ، أفعل ذلك بالشعر ..بالشعر وحده ..لا أملك شيئا آخر، مجرد صرخة واضحة شرسة..وقحة ولا معقولة لكن حقيقية ، الشاعر هو الملاكم الذي يتعرض للكمات لا عد لها لكنه في النهاية يرفع يديه منتصرا رغم عينيه المتورمتين وفمه المدمی ورغم أن الجمهور يصفق لمنتصر آخر.

أبمقدورك قياس حجم المسافة بينك وبين الغرق؟ فإذا نجوت حقا هل خطر لك أن تنقذ البحر من هاجس الغرق ؟

أنا ابن البحر ..كبرت وصرت رفيقه.. وفي جسدي وروحي ما يكفي من جيناته.. الغرق هو حضن هذا الأب..هو ذراعاه لذلك أنا أغرق في الحب..في الحزن..في النشوة..في الغضب، في الخيبة.. رأيت الغرق بعينيّ المجردتين ورأيت الغرقى.. رأيت مثوى الحطامات ومن يغرقون .. ركبت البحر وكثيرا ما كنت وسط معمعة الماء العميق الداكن.. الكلمة معتادة عندي مثل الخبز لكنها تبقى مفعمة ولها انزياحاتها التي لا تحصى.

أمن المنطقي أن تحرض يوما لفافات تبغك على حرق قصائدك وتوعز للنار بدورها أن تلتهم معاطف شتائك القادم ! ، ربما لكي يتسنى للمطر أن يراك لا أن يلمحك مختبئا وراء الأشياء ؟

شيئان أريد أن أفعلهما قبل موتي.. أن أحرق كتبي في الشتاء وأتدفأ عليها .. وأن ألقي قصائد كتبتها ولم يقرأها أحد في البحر..في مكان بعيد من البحر، بينما تحترق السيجارة بين شفتي أو وهي محشورة بين أصابعي تحترق أشياء كثيرة أريدها أن تحترق، لا أفكر بالضرر وما إلى ذلك.. ما أفعله بلذة.. لا يضرني .. أحب أن أصدق هذه الفكرة.

شاهد أيضاً

بحضور المدير التنفيذي للمؤسسة الوطنية للإعلام: اختتام الدورة التي اقامتها هيئة الصحافة في مجالات الادارة الحديثة

اختتمت اليوم الخميس 21 نوفمبر بالهيئة العامة للصحافة الدورة التدريبية التي نظمتها الهيئة العامة للصحافة …