منصة الصباح

من يكتب التاريخ؟

زايد..ناقص

جمعة بوكليب

المعارك حول حق كتابة التاريخ، لم، ولن تتوقف. فهل يعني ذلك أن ما كُتب، حتى الآن، من تواريخ تفتقد المصداقية؟

عقب نجاح انقلابه العسكري، سيء الصيت، في شهر سبتمبر 1969، وتمكّنه من احكام قبضته على مجلس قيادة الثورة والجيش والبلاد، في سنوات قليلة، بدأ العقيد معمر القذافي في العمل بدأب على إعادة كتابة تاريخ ليبيا. البداية كانت بمحو كل ما له علاقة بتاريخ الحركة السنوسية، واعادة برمجة تاريخ جهاد الليبيين ضد الاستعمار الايطالي بما يتناسب وأهداف المرحلة الجديدة، ووسم النظام الملكي السابق بالتخلف والعمالة، وقياداته بالخونة والعملاء. وبالطبع، ترتب على ذلك، الحاجة إلى فبركة تاريخ بديل، يتمحور حول شخصه، ونضاله السرّي منذ صباه من أجل القيام بثورة، واسقاط النظام الملكي، وتحقيق الوحدة العربية..الخ. ولم تكن المهمة صعبة، لأن الكثيرين من الانتهازيين شمروا عن سواعدهم استعداداً لاداء المطلوب.

ما فعله القذافي، خلال فترة حكمه، بالتاريخ، وحرصه على إعادة كتابته، وتقديم سرد مخالف لماكان سائداً ومتداولاً، وبشكل يركز على ابرازه  شخصياً كزعيم وقائد ثوري، ومؤلف نظرية سياسية جديدة، ورائداً لعصر الجماهير، لم يكن أمراً مستجداً أو طارئاَ، بل تقليد قديم،  دأب على نهجه من قبل ملوك وحكام وقادة. القاعدة المتعارف عليها، والسارية المفعول حتى الآن، هي أن من يمتلك مقاليد السلطة يصير من حقه كتابة التاريخ كما يراه ويريده. هذا يعني أن التاريخ يكتبه المنتصرون والأقوياء من جهة، ومن جهة أخرى يعني كذلك أن كتب التاريخ تمتليء بالأكاذيب. أضف إلى ذلك، وفي نفس الوقت، أن هناك تواريخ أخرى أسقطت عمداً، وحقائق عديدة حذفت قصداً، أو تعرضت للتغيير والتزييف، تخصّ فئات اجتماعية مغلوبة. وأن ما صدر مكتوباً عن تلك الفئات من تواريخ ووصلنا، انما صدر عن ألسنة رواة وأقلام مؤرخين، غير محايدين، يدينون بولائاتهم لمن أمتلكوا، بقوة الأمر الواقع، السلطة.  وبالتالي، فان ما وصل إلينا من تواريخ عن تلك الفئات، في أغلبها، مشكوك في مصداقيتها لأنها آحادية الجانب، وتفسر الوقائع من وجهات نظر سلطوية، وبما يتسق وأهدافها.

في برنامج وثائقي عرضته، مؤخراً، محطة بي بي سي  2 التلفزية مع الكاتب والروائي الأسود جيمس بالدوين  تحت عنوان” أنا لست زنجيك-I am not your nigger”، تعرض الكاتب إلى مسيرة نضال السود ضد العنصرية في أمريكا، من خلال مسيرة حياته الشخصية وتنقلاته وكتاباته، أتي على تعريف آخرمتميز للتاريخ، بتأكيده على أن التاريخ ليس الماضي بل الحاضر.

الحاضر، ليس أمتداداً للماضي، كما يعتقد البعض. الماضي، كما يؤكد مثل أنجليزي، ” بلد آخر.”  الحاضرهو محصلة ما يحدث من وقائع تتعارض، شكلاً وموضوعاً ، مع الماضي. وما نعيشه في وقتنا الحاضر من أحداث، خاصة بعد ما حدث في مدينة مينابولس بولاية مينسوتا الامريكية، ثم في غيرها من مدن أوروبا، يتعلق مباشرة بحق الأقليات في المشاركة في كتابة تاريخها، لأن التاريخ أساس الهوّيات. وبما يضمن اعادة تشكيل وصياغة ذاكرة جماعية، تمثل المجتمع وما حدث فيه من تطورات وتغيرات. وبما يكفل بناء مستقبل جماعي أفضل، قائم على المساواة  بين كل مكونات المجتمع في كل الحقوق، وليس بعضها فقط.

الجدير بالملاحظة، أن هذه الدعوات والمطالب، التي ظهرت مؤخراً، ليست جديدة كلية. فقد رفعتها في السابق الحركة النسوية في امريكا وأوروبا، منذ انطلاقها، حيث دعت قياداتها  الى المطالبة بحق استعادة النساء لدورهن المحذوف من روايات المؤرخين ، وحقهن في المشاركة في كتابة التاريخ بما يتسق وحقائق الواقع.

 

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …