منصة الصباح

من القعماز إلى الكرسي

إغراء الكرسي جذب حتى بعض من كانوا يعارضون جلوس أحد ما عليه أطول مما ينبغي داعين إلى التداول السلمي للسلطة وإعادة الكرسي للشعب كي يُجلس عليه من يشاء وفق انتخابات ديمقراطية.. لكن هؤلاء البعض عندما يجلسون على ذات الكرسي تسري في أوصالهم دماء مختلفة تشدهم إليه.. جاذبية غريبة أفلتت من تفسيرات “أينشتاين” وكبار علماء الفيزياء والكيمياء والذرة.

في بلاد متوسطية ما انفكت طوال قرون تواصل الخروج من تجربة وتدخل أخرى في رحلة تعليمية لا تتسم بالثبات الاستقرار وتقريبًا هي الأطول في تاريخ الشعوب، فمن حكم القبائل إلى الولاة والأمراء والشيوخ والقادة والباشوات والجنرالات والملوك والزعماء، جربت أن تختار وأن يختاروا لها، والوطني والأجنبي، جربت الإدارة الأجنبية والمحلية والأممية، ونافست الكبار في ملاعبهم دون أدوات لعب حقيقية تحسم النتيجة لصالحها عديد المرات لكنها لم تستسلم، في هذه البلاد يولد الأطفال أحرارًا حتى من الثياب لكن وعلى وجه السرعة يتم تكبيلهم بـ(القماط) فالجدات يرون فيه حماية لهم، ويكبرون على وقع أغاني التربيج تطالبهم بالحبو والجلوس والمشي والجري والفرسنة في زمن أسرع من أقرانهم، وقد يواجه بعضهم قيدًا آخر اسمه (الرباط).. لكن الجميع يحصل على (قعماز) ليتعلم الجلوس ومهما اختلفت أنواعه والمواد الداخلة في صنعه لكنه (قعماز) في كل الأحوال.

من (القعماز) تبدأ علاقة كل منا بالكرسي، وتتطور بعد حين من المشي إلى مقعد الدراسة الذي تبدأ معه أولى منافسات الكرسي، فمن يحضر أولا يحصل على المقعد الأول، وولد المعلمة يحصل عليه حتى وإن جاء متأخرا، ثم أولاد المعارف والمرموقين على حساب الطفل الذي جلس عليه أولا، وفي خضم المنافسة قد يربح البعض المقعد الأول بسبب ضعف النظر أو السمع أو فرط الحركة فتجلسه المعلمة قريبا منها كي تسيطر عليه وبغض النظر عن صدق هذه الحجج إلا أنها تفي بالغرض معظم الأحيان وتنقل صاحبها للمقعد الأول غصبًا عن الجالسين فيه منذ بدء الدراسة ويتوجب عليهم الذهاب للمقعد الأخير.

بعد سنوات يكتشف كثيرون من الطلبة أهمية المقعد الأخير، فهو بعيد عن المعلمة ويسهل معه الغش والأكل خلال الحصة واستخدام الهاتف وحتى المشاغبة بقذف الزملاء بالأوراق والأقلام عندما يكون المعلم ملتفتًا صوب السبورة، وأحيانًا ينشب عراك بين التلاميذ بسببه، ومهما اختلفت المقاعد، فعندما يغيب الطالب عن المدرسة، يأتي في اليوم التالي مبادرًا زملائه بالسؤال التقليدي المستمر: منو قعمز في مكاني آمس؟ أو منو قعمز في مقعدي آمس؟

كرسي المعلم جذاب أيضا فالكل يرغب في الجلوس عليه بمجرد أن تنتهي الحصة، وكرسي العروس يغري البنات بالجلوس عليه طلبًا للحظ، أما كرسي السيارة الأمامي فهو سبب لصراع الإخوة خلال أي رحلة مع أحد الأبوين، وبين الزوجة وأم الزوج في بعض العائلات حتى أن صفحات فيسبوك تتكرر عليها منشورات تتساءل عن الأحق بالجلوس فيه هل العزوز أو الكنة؟

لعبة الكراسي هي الأشهر في المرحلة الابتدائية، ندور على كراسي أقل منا عددًا طالما يصفق المعلم أو يشغل موسيقى ما فإن توقف يجلس كل منا على الكرسي الذي يجده ومن لا يجد كرسي يخسر ويغادر ومعه أحد الكراسي، فيحصل هذا اللاعب على كرسي فقد قيمته بخروجه من اللعبة، وترتفع قيمة بقية الكراسي كلما خرج أحدها مع أحد اللاعبين ويستمر الدوران والخروج وتشتد المنافسة وفي النهاية يفوز طفل وحد فقط.

في لعبتي السياسة والإدارة كراسي ذات قيمة وكلما نقص واحد زادت أهمية البقية حتى لا يبقى إلا الكرسي الوحيد والأهم ويتطلب الجلوس عليه الدوران وإقصاء الخصوم خارج اللعبة كي يجلسوا في النهاية على كراسي لا قيمة لها ويحكمهم واحد انطلق من قعماز وواصل اهتمامه بالفكرة وإتقان اللعب لسنوات حتى وصل إلى الكرسي الأهم.

أحلام محمد الكميشي

شاهد أيضاً

زياد الذي لم ينس ريشه

مفتاح قناو منذ أن عرفته عن قرب في تسعينيات القرن الماضي، كان الكاتب الراحل زياد …