منصة الصباح

من أين لهم هذا؟

وجهة نظر

د. طه بعرة

أستاذ القانون

ابدأ مقالي بسؤال من أين لهم هذا؟ لأدور في فلك قانون من أين لك هذا؟ بعد أن استلهمته من السؤال اليومي للمواطن الليبي الذي يطرحه على نفسه ومن حوله فيقول من أين لهم هذا؟

نعم،، مئات الألوف وعشرات ومئات الملايين من الدينارات الليبية، تودع في الحسابات البنكية، لدى أصحاب المداخيل القزمية، والأعمار الدونية، والمؤهلات الوهمية، ولا يسألون عن تفسير هذه الأحجية، رغم تناثر الأجهزة الأمنية! فكيف لا نسأل من أين لهم هذا؟

قانونان ولائحة لمكافحة جرائم غسيل الأموال، وقانون للمصارف وتعديل، وقانون للجرائم العامة والعقوبات، وقانون للتطهير، وقانون لتحريم الوساطة والمحسوبية، وقانون للجرائم الإقتصادية، وقانون من أين لك هذا،، ولا أحد يجرؤ على السؤال من أين لهم هذا؟

نيابة عامة، وديوان للمحاسبة، وهيئة للرقابة الإدارية، وهيئة وطنية لمكافحة الفساد، ووحدة للمعلومات مالية، ومكتب للشرطة العربية ومكتب للشرطة الدولية، وقسم للمباحث الجنائية، ومؤسسات عقابية وتأهيلية،، ولا أحد يسأل من أين لهم هذا؟

تودع الأموال لدى القنوات الرسمية وتقفز لأسواق العملة غير الرسمية، وتحدث طفرة في الأسعار العقارية، وتعبر الحدود الوطنية إلى العواصم الأجنبية،، ولا تجرؤ المصارف إلا على عد النقدية وإرسال الرسائل النصية! ولا تسأل من أين لهم هذا؟

تقارير فسادنا الدولية على الشبكة العنكبوتية، وتصريحات مبعوثي الهيئة الأممية، والتعامل المهين مع حامل الجنسية الليبية لدى البنوك الأجنبية، كلها تشي بفضاعتنا الإجرامية وفضائحنا المالية، ومع هذا لا نسأل من أين لهم هذا؟

تساءلت في مقالي السابق الذي كان بعنوان (جبهة موحدة لمحاربة الفساد في ليبيا)، إن كنا ننتظر أن تفرغ الخزائن حتى نبدأ في مكافحة الفساد؟ أو ننتظر ولادة دولة قانون من رحم الفساد؟ أم ننتظر فساد ما تبقى من صلاح؟

إذا كانت جميع الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد قد عجزت أمامه، أليس الإستمرار في الإنفاق عليها فساد؟ أم أن للفساد مفاهيم آخرى لا نفهمها، لأني قرأت ذات يوم مقال ساخر عن الفساد، سرد الكاتب فيه سؤالاً مفاده: هل وجود هيئة لمكافحة الفساد يدل على حرصنا على مكافحته، أم أنه اعتراف بأن الفساد قد انتشر لدرجة يتوجب معها إنشاء هيئة له؟

هل العائق من طرح السؤال تشريعي في القانون؟ أم تنفيذي في الحكومة؟ أو قضائي في المحكمة؟ أم إجتماعي في فهمنا لمكنون الفساد؟

إذا ما لاحظنا تشريعياً بأن المشرع الليبي سن كل الترسانة السابقة من القوانين، وكان بين الحين والآخر يدخل التعديلات عليها فيلغي بعض نصوصها ويعدل بعضها ويضع آخرى جديدة، بدءً من قانون العقوبات العام لسنة 1953 الذي كافح فيه الجريمة عموماً وعلى المال العام خصوصاً وبشكل مفصل، ثم اصدر القانون رقم 3 لسنة 1970 بشأن الكسب الحرام، الذي الزم فيه موظفي الدولة وخاصة اصحاب المناصب العليا على تقديم اقرارات الذمة المالية عند بداية التعيين وعند انتهاء الوظيفة، ثم القانون رقم 3 لسنة 1986 بشأن من اين لك هذا، الذي نص فيه على عقوبات جنائية ورد للاموال المتحصلة من الكسب غير المشروع، ثم القانون رقم 10 لسنة 1994 بشأن التطهير الذي اعاد من خلاله تنظيم الكسب الحرام بطريقة اكثر تفصيلاً . هذا حتى وعقب تغير النظام في العام 2011 ومباشرة المشرع في مراجعة وتهذيب المنظومة التشريعية، لم يسن نصاً واحداً يشير إلى إلغاء التشريعات السابقة، وإنما عزز وجودها بالقانون رقم 63 لسنة 2012 بشأن انشاء هيئة مكافحة الفساد الملغي، والذي نص فيه على أن إختصاص الهيئة يسري على الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم 10 لسنة 1994 بشأن التطهير، ثم اصدر القانون رقم 11 لسنة 2014 على بشأن انشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والذي نص فيه على أن تباشر الهيئة إختصاصها على الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم 10 لسنة 1994 بشأن التطهير، وهو ما يعني بأن المشرع قد ضاعف الحماية الجنائية للمال العام الليبي من خلال هذه المنظومة القانونية، التي اوكل تنفيذها بطبيعة الحال إلى الحلقة الثانية وهو التنفيذية، لتقوم بدورها في منع إرتكاب الجريمة وكشفها وضبطها وإحالة مرتكبيها للحلقة الثالثة ألا وهي القضائية، والتي يتعين عليها أن تحاكم مرتكبيها وتنزل بهم العقوبات الكفيلة بتحقيق ردع عام وخاص، يحول دون إعادة إرتكابها ويسترد المتحصل منها.

إذن لماذا السلطة التنفيذية أو بالآحرى أجهزة إنفاذ القانون لا تسأل من أين لهم هذا؟ إذا لم يكن العائق قانوني فهل يكون إجتماعي او آخر غير ذلك؟ قرأت مقال قديم لطالب سوداني الجنسية، إستلهمه من تجربته الشخصية مع صديقته العجوز الإنجليزية، التي كان يمر على محلها يومياً ليثرثر معها ويشتري منها ألواح الشكلاطة بمبلغ 18 بنساً، فقال ذات مرة لمحت بأن ذات الشكلاطة مرصوصة إلى جانب بعضها في ذات الرف وبسعرين مختفلين، الأول 18 بنساً والثاني 20 بنس.

فسأل العجوز قائلاً اليوم أرى عندك نوع جديد؟ فأجابته في اقتضاب بأنه نفس النوع؟ فواصل متسائلاً إذن وزن وحجم جديد؟ فأجابت بأنه نفس الوزن والحجم.. دهش وسألها لماذا هناك سعران لذات المنتج؟ فأجابته بأن الشركة المصنعة تواجه مشكلة مع مصدر الكاكاو بنيجيريا وهذا هو الثمن الجديد.. هنا قال لها من سيشتري منك بالسعر الأعلى، ولماذا تنتظرين نفاذ كمية السعر الأقل! لماذا لا تخلطين النوعـين معاً وتبيعين بالسعر الجديد الأعلى؟

قال هنا جحظت عيون صديقتي.. ثم مالت نحوي.. وهمست في فزع.. هل أنت حرامي؟؟

الطالب ظل حائراً في سبب تركيبته التي جبلت على الفساد و اعتادت عليه و ظنت بأنه فالح وذكي.

مكافحة الفساد المحترفة علم وثقافة وأخلاق، لا تتم إلا عبر إستراتيجية موحدة تنتهجها الدولة وتتشكابك لتحقيق أهدافها جميع المؤسسات والأجهزة، جناح يسد منابعها الإقتصادية التي تمتص دم الشعب الليبي في صورة دعم ووظائف ومزايا، وجناح يسد مساراتها السلوكية داخل الوحدات الإدارية والمالية للدولة.

نعم هذا التوحيد في الاستراتيجية والأجهزة أصعب من إجراءات المكافحة ذاتها، في الدولة عجزت حتى عن سجلاتها المدنية، ولكن هذا لا.

شاهد أيضاً

مستشفى طب وجراحة الفم والأسنان بمصراته يحيى اليوم العالمي لنظافة الأيدي

  الصباح نظم مستشفى طب و جراحة الفم و الأسنان بمدينة مصراتة بالتنسيق مع إدارة …