خميسة مبروكة الفضية
منصور بوشناف
في نهايات القرن التاسع عشر، حين ولدت”مبروكة العلاقية”، كانت صبراته حيث ولدت “مبروكة” كما ليست هي الآن بالتأكيد، كانت حقول القمح والشعير والبصل والنعناع والطماطم والبطيخ. كان الماعز والضان والدجاج. كان الاطفال والنساء والرجال، كانت الحياة تمضي بكل هؤلاء في مسارها العادي بكل مافيه من آلام وآمال. كان مجتمع الكفاف الليبي يعيش مكتفيا بالكفاف ويحلم بالتأكيد بالخبز والسلام والخلاص من الأتراك ودفع “الميري”.
“مبروكة العلاقية” وكما كل أطفال صبراته في نهايات القرن التاسع عشر ما كانت لتحلم بالتعليم ولا بالمساواة، كان الأفق المفتوح أمامها لايتجاوز قريتهم ومزرعتهم وعدة النسيج وخيوطه وأدوات الطبخ ومواده المحدودة والفقيرة، ما كان لها إلا أن تكبر لتطبخ وتنسج وترعى المواشي وتشارك في قطاف وحصاد ما تجود به مواسم الكفاف.
مبروكة ماكانت تعرف أن تحت أقدامها وتحت عالمها مدنا أخرى وبشرا آخرين، سادوا وبادوا ولا تعرف أن من باد قد يعود ويسود.
في تلك الأثناء كانت روما القرن العشرين تدخل حداثة الصناعة ككل أوروبا، وتنفخ كيران المجد على نيران إرثها الإمبراطوري الدفين، ويسيل لعاب رأسماليتها الشابة والنهمة للمواد الخام والعبيد الجدد.
كان أفق روما ينفتح بعيدا ويجتاز حدود القومية والقارة ويتحول إلى حلم إمبراطوري نهم وعدواني.
بين روما وصبراته “العلاقية” كان ثمة تاريخ يدفنه الرمل، تتعثر به أقدام العلاقية من حين لآخر دون أن تدرك كنهه ولا تعرف تاريخه ولا حتى اسمه، أما روما فإنه يضج بذاكرتها ويحتل خيالها، وتحلم باستعادة أمجاده وسطوته على أرجاء العالم.
تكبر روما وينضج حلمها ويكبر متسرطنا، وكذا تكبر مبروكة العلاقي ولا يجتاز حلمها حدود صبراته، ولا يذهب أبعد من الزواج وإنجاب الأطفال وتربيتهم على ما تربت عليه، أن يزرعوا ويحصدوا وينسجوا وينجبوا أجيالهم التالية لتستمر الحياة.
مبروكة العلاقية وهي تكبر وتنضج ما كانت تتخيل أن ثمة خلف البحر، الذي ظلت تراقبه من حين لآخر باندهاش ورهبة، ثمة بشرا آخرين يتطلعون إلى صبراته، ويخططون لأخذها بحثا عن كنوزهم المدفونة تحت رملها قبالة شاطئها البديع.
تحول حلم روما إلى جيوش من البشر المهووسين وحديد مزمجر، واندفعت الجيوش والحديد. اندفعت روما عبر البحر باتجاه ليبيا وصبراته تريد اكتساحها وقلبها رأسا على عقب لاستخراخ مجدها القديم، ولتشبع نهمها الجديد للتوسع والاستعمار.
مبروكة العلاقية ظلت حتى وهي تكبر وتصبح امرأة ناضجة تحتفظ “بخميسة الفضة” المعلقة بعنقها منذ طفولتها ولا تتخلى عنها، تخلع وتلبس كل ما يناسب سنها وذوقها وتبقي على”خميسة الفضة” بعنقها حارسة وحامية لها من الحسد وأخطار الحياة، كما قالت لها أمها وأوصتها بالحفاظ عليها، فحياتها كأنثى تزرع وتحصد وترعى الغنم وتذهب بعيدا ووحيدة كانت تحتاج لحارس أمين.
حين وصل حديد روما ومهووسوها إلى صبراته خلعت مبروكة ملابس النساء حلقت شعرها ولبست ملابس المقاتلين الليبيين
تعلمت وهي تكبر أن تدافع عن نفسها بكل ما تستطيع، فصارعت الأولاد وتعلمت استخدام العصا للدفاع عن النفس إلى جانب الهش بها على الغنم، ثم تعلمت ركوب الخيل مع أقرانها من الأولاد على غير عادة البنات من جيلها، ووصل الأمر بها إلى تعلم الرماية بالبنادق. كانت أنثى تكبر قوية محروسة بالخميسة الفضية، وفنون الدفاع عن النفس المعروفة في زمنها والمقتصر تعليمها على الأولاد والرجال. كانت العلاقية كائنا استثنائيا وإنسانا شديد الوثوق بالنفس.
كانت قادرة على أن تخلع كل ذلك ونسيان كل تلك الخبرات في لحظات حياة الأنثى الخاصة، ولا تحتفظ إلا بتلك الخميسة الفضية في كل الظروف والتحولات.
حين وصل حديد روما ومهووسوها إلى صبراته خلعت مبروكة ملابس النساء، حلقت شعرها ولبست ملابس المقاتلين الليبيين، والتحقت بالمجاهدين تحت قيادة “سوف المحمودي” كمقاتل يعلق بعنقة “خميسة فضية” كما تفعل النساء. ترقت إلى قائدة مجموعة مقاتلة تهاجم معسكرات الإيطاليين.
“كانت تركب جوادا أسود وتنادي على رفاقها بالهجوم، كانت بملابس الرجال وتقود مجموعتها رغم إصابة يدها اليسرى بجرح كبير، إنها جان دارك ليبيا”. هكذا يصفها مراسل جريدة “بازل جورنال السويسرية”.
مبروكة العلاقية هاجرت إلى تونس بعد انتهاء المقاومة، خلعت ملابس المقاتلين وأبقت على”خميسة الفضة” فقط حتى توفيت هناك منسية، لتظل في الذاكرة مفترقَ طرق لليبيات بين نوعين من النساء .