زايد..ناقص
جمعة بوكليب
كثيراً ما نسمعُ مَنْ حولنا يرددون أن الإنسان حيوانٌ اجتماعي. أي أن حُبّه للاجتماع والاختلاط بغيره من البشر يجعله على كُره للعُزلة، وعلى خصومةٍ مع الوحدة، كونه لا يريد ولا يقدر على العيش منفرداً، إلاّ في حالات نادرة. تلك الحالاتُ، قد تكون مفروضةً بقوة التقاليد أو القانون، وأصحابها، على اختلافهم، لا خيار لهم سوى الامتثال.
وعلى سبيل المثال، تَعرّضُ أناسٍ إلى عقوبة السجن، نتيجة أفعال ارتكبوها، أو أفكار تبنّوها، أو جرائم اقترفوها، مما استلزم حبسهم وحرمانهم من حرّياتهم، وعزلهم في السجن بمنعهم من الاختلاط بغيرهم من السجناء، بوضعهم في حبس انفرادي، لسنوات تطولُ أو تقصر. العزلةُ، كما تكون مفروضة تكون أيضاً اختيارية، في بعض الأوقات. بمعنى أن أناساً مثلنا يضيقون بالحياة في المجتمع، ويقرفون من العيش فيه مع غيرهم من بني جنسهم، ويلجأون إلى طلب العزلة، بسحب أنفسهم طوعياً، واللجوء إلى الاعتزال في بيت، أو كهف، أو في القفار والصحاري، أو في جزيرة مقطوعة.
العزلة ُالاختيارية قد تكون بدافع ديني روحاني، كما يفعل بعض القساوسة الأقباط في مصر، حيث يهربون من مفاسد الناس وإغواء الدنيا إلى طلب عزلة نائية في كهوف الصحراء. القساوسة الأقباط ليسوا سوى مثال واحد، لأن الظاهرة تتكرر أيضاً في أديان أخرى. وقد لا تكون لأسباب دينية، ومثال ذلك ما فعله الفيلسوف والشاعر أبو العلاء المعرّي، من حبس نفسه في بيته بالمعرّة، واعتزل الناس. هناك كذلك حالة أخرى من العزلة، يمثلها، في التاريخ العربي، الشعراء الصعاليك. وهم فئة صغيرة، لجأت مضطرة إلى العيش في القفار والصحاري مع الوحوش هرباً من عقاب المجتمع لقاء ما اقترفوا من أعمال. ولعل أكثرهم شهرة الشاعر عُروة بن الورد، و الشاعر الشَنْفَرَى صاحب البيت المشهور الخالد:
عَوَىَ الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عَوىَ وصَوّتَ إنسانُ فكدتُ أطيرُ.
وكما أن الإنسان حيوان اجتماعي فهو أيضاً حيوانٌ سياسي. الأصلُ في السياسة المصلحة. المصلحةُ هي من فرض على الإنسان البدائي طلب الاجتماع ببني جنسه بغرض البقاء والنجاة من هلاك محتمل. والمصلحة استوجبت كذلك أن يبحث، عقب التحاقة بجماعة، عمن يماثله في الاهتمامات، ويتحد معهم- في عصبة أو حزب أو نقابة أو غيرها- بهدف حماية تلك المصلحة، بالذود عنها ضد من يحاولون المساس بها، وفي ذات الوقت العمل على تطويرها.
هل يعني ذلك أن أساس المصلحة ذاك، كان وراء دفع الانسان لأن يكون حيواناً اجتماعياً، وأنه بذلك، كان حيواناً سياسياً قبل أن يكون حيواناً اجتماعياً؟!
اختلاف المصالح استوجب انقسام المجتمع مصلحياً. وظهرت الحاجة إلى تنظيم المجتمع سلمياً، ووضع قوانين تنظم التعايش المشترك، وتصون المصالح المختلفة، وتمنع من تحوّل التباين بينها إلى صراع مسلح.
الانقسام بين مختلف فئات المجتمع الليبي ليس جديداً، ويخضع لنفس القاعدة. وهو في ذلك لا يختلف عن غيره من المجتمعات، مهما تنوّعت واختلفت الشعارات المرفوعة. وعدم الوصول إلى وفاق جماعي، حتى الآن، يتيح فرصة أمام سلام، يؤدي إلى تفاوض كل الأطراف المتصارعة، للوصول إلى اتفاق اجتماعي جديد، يحدد مصلحة كل فئة، ويوفر لها الحماية بقوة القانون، هو السبب وراء إدامة الصراع والتناحر المسلح. والسبب في ذلك أن بعض الفئات تفضل استمرار حالة الوضعية الراهنة، إلى أبعد مدى زمني ممكن، بهدف توسيع حدود مصالحها، من خلال التعدي وابتلاع مصالح فئات أخرى، غير قادرة على حمايتها، عبر وضع اليد، وبمرور الوقت تصبح حقاً مكتسباً لهم. أنظروا من حولكم.