تشكيل..
زكريا محمد
أعشق سفن “معتوق أبوراوي” أهيم بها بحراً ( لا سبب لذلك ) فهي قديمة مهترئة ثم أنها لا تصل إلى بر، هي إبحار دائم بل في كثير من الأحيان هي غرق مؤجل.
سفنه ..لا ربان لا بحارة ..ركاب فقط وهم أنفسهم الربان والبحارة بل هم الأشرعة والمجاديف إن إستدعى الأمر.
إذا كان هذا حال السفن فكيف هو حالك يابحر ؟
كن متأكد إن هؤلاء الذين يقفون محل الصواري التي حطمتها لاتخيفهم موجاتك العاتيات، تبين فقط أجسادهم السمراء واعناقهم العالية ألم تلحظ يا(مزرعة الاسماك ) إنهم لايعيرونك اهتماما؟ ثم إنهم لاينظرون للخلف ابدأ وكأنهم لا جنوب لهم ..
لمّ اتوقف كثيرا في حكاية سفينة بلا ربان وبحارة .. فما وحد إبحارهم ووحد غرقهم هو ربانهم البديل وغير المرئي (فهدفهم ربانهم والتوق لبر المعرفة هو بحارتهم).
حين كتبت عن لوحات البوراي منذ سنوات وتحديدا عن معرضه الذي اقامه تحت اقواس غرناطة والذي سماه (تأبين المفقودين)..الغارقين أملا.. على ضفاف الشاطي الشمالي للمتوسط كنت متاكد إنهم باجسادهم النحيلة السمراء وأعناقهم الطويلة أنهم هم من تبقى من الفنيقيين جدر الحضارات في العالم ومن نفخ الروح في ضفتي المتوسط .. نعم عادوا هذه المرة لكن بعد أن أنهكهم التاريخ وافرغ محتواهم عادوا يقودهم للضفة المقابله توق قديم ونظرة شمالية ، الفطرة تقودهم فلاخارطة ولابوصلة ، بحر عاتي سفن مهترئة أشرعة ممزقة صراخ نساء عويل اطفال ورجالا يبكون دما وهم متشبتين ببقايا الصاري …
وكأنها حرب اساطيل وهي بالكاد بين بحر خرج للحرب و بقابا قارب به فيض من «الامال « التي تختلف عن كل ما عرفناه حول هذه المفردة عن ما عشناه ودرسناه عنها و ماقيل عنها شعرا ومادونه حولها الفلاسفة . هي هنا تعزف نغما منفردا على مقام الموج تعزف أملاً آخر أمل تقود ارقامه ومنطقه وبراهينه ونتائجه للموت غرقا. أمل بلا كفن بلا جنازة ولا شاهد قبر أمل بلا وداع فلا أهل ولا أصدقاء.. أمل هو الحياة في صفر معانيها ، هو إكبار لها بل والبدء في صياغتها بحروف لم توجد من قبل ، أمل هو ( إعادة القيمة الحقيقة لها) .
حدث كثيرا أن يصل أحدهم أو مجموعه صغيرة منهم لشاطي المعرفة حيث رسى الاجداد قديما ووضعوا لبنة التاريخ الأولى ، ومن وصل منهم لربما اختلفت عليه الموازين لدرجة الجنون لكنه رويدا سيشعر بالأنتماء لنفسه بانعدام القيد والحرب والهروب الدائم .
سيقدر قيمة النجاة ويبدا من جديد بحياة لاجنوب فيها .
أما الذين خسروا معركة البحر بعد أن انتصروا في معارك الجبال والصحاري الشاسعة والمدن المتخلفة بل احيانا الحروب التي صادفت دربهم ، لكنهم وفي معركة البحر خسروا وانتهوا جماعات تتلاطمها الامواج هؤلاء هم تمجيد للحياة نصب تذكاري لها .كما أنه «لاكذب» في كل هذا فحتى الموت يحمل ذرة من امل .
اخيرا في كل سطر كتبت اعتصرني الالم (لولا الامل ) ..فكيف بمعتوق ابوراوي وهو يسجل على جدار الزمن كل تراجيديا هذه الملحمة.