منصة الصباح

مظاهر الاقتباس في الكتابة السينمائية

سينما ..

رمضان سليم

ينظر نقاد السينما إلى الجهد الذي قدمه نجيب محفوظ في مجال السينما، كاتباً للسيناريو، على إنه جهد يمثل  أحد دعائم الأنتاج السينمائي فى مصر ، بحيث يمكن أن تفرد له الصفحات لوحده، والأمر ليس بالقريب تاريخياً، بل يعود إلى عام 1947 عندما أنهى نجيب محفوظ كتابة سيناريو فيلم «مغامرات عنتر وعبله»، للمخرج صلاح أبو سيف.. لنترك جانباً تأثير روايات وقصص نجيب محفوظ على مجال السينما، فهو يكتب الروايات لكي تقرأ فقط، كما يقول. أما الأفلام فهي لأصحابها من كتّاب سيناريو، ومخرجين، وإن كان الفيلم يعتمد على الاقتباس.

إن اقتباس روايات نجيب محفوظ وتحويلها إلى أفلام كان خطوة جيدة نحو دعم الانتاج السينمائي بأفلام مازالت تذكر إلى الآن ومن ذلك: بداية ونهاية، اللص والكلاب، القاهرة 30، الثلاثية، خان الخليلي، زقاق المدق، السراب، ميرامار، ثرثرة فوق النيل، الكرنك، حب تحت المطر، قلب الليل، السمّان والخريف، الطريق، الشحاذ، الحرافيش، بالإضافة إلى أفلام اعتمدت على قصص قصيرة مثل: دنيا الله، الخائنة، الحب فوق هضبة الهرم، الجوع، والقائمة تطول ..

نجيب محفوظ هذا الذي نعرفه كاتباً للأدب، وأهم أعلام الرواية العربية والحاصل على نوبل للآداب، اديب يختلف عن نجيب محفوظ كاتب سيناريو الأفلام ذلك ان كتابة السيناريو مهنة مختلفة ، فيها تقنية واحتراف تتطلب مهارات معينة، مرتبطه بدوران عجلة السينما في مصر، لأن الفيلم عمل جماعي  له متطلبات خاصة، أما الأدب فهو عمل فردي، يُسأل عنه صاحبه فقط.

لنجيب محفوظ ولع بالسينما منذ كان طفلا صغيراً يشاهد الأفلام الصامتة في سينما الكلوب أفندي، وهو يذكر تلك الأيام عندما كان في الخامسة من عمره، وكيف أنه كان يستغرق في حلم السينما فلا يود الصحو منه، إلا عندما تأتي كلمة النهاية، والتي قال أنه كان يكرهها، لأنها ستعيده إلى دنيا الواقع.

كان للمخرج صلاح أبو سيف دوراً كبيراً في جرّ نجيب محفوظ إلى السينما، فقد قرأ بعض رواياته المنشورة في البدايات، ومن ذلك: عبث الاقدار، ورادوبيس، وربما القاهرة الجديدة التي نشرت متسلسلة ايضا تحت أسم افضيحة في القاهرةب. وربما لمس أبو سيف إهتماما بالصورة داخل ثنايا الروايات المحفوظية، وهذا ما شجعه على أن يعرض عليه كتابة السيناريو لأحد الأفلام، ولأسباب مالية قبل نجيب محفوظ العرض.

وبمساعدة أبو سيف عرف الكيفية التي يكتب بها السيناريو، وكان ذلك في أسبوعين، بالإضافة إلى قراءات نجيب  في كتب لها علاقة بالسينما بشكل عام.

كانت الكتابة ثنائية مشتركة مع صلاح ابوسيف  في فيلمين .. الأول” مغامرات عنتر وعبله”، والثاني” لك يوم يا ظالم”. ومع بعض النجاح المتحقق وإضافة حوار سينمائي كتبه في الفيلم الأول بيرم التونسي ، وفي الفيلم الثاني ابو السعود الابياري  تحولت كتابة السيناريو إلى ما يشبه المهنة التي أدرت دخلاً معقولاً على نجيب محفوظ  .. حوالي مائة جنيه لكل سيناريو (بدون حوار).

تقول المعلومات بأن أول فيلم عرض وكتب له نجيب محفوظ السيناريو، وهو فيلم “المنتقم”، عام 1947.  يلي ذلك فيلم “مغامرات عنتر وعبله”، عام 1948. ثم فيلم”لك يوم يا ظالم”، عام 1951. ثم كانت النقلة المتميزة بفيلم” ريا وسكينة”، عام 1953. يلي ذلك فيلم جيد آخر وهو “الوحش”، عام 1954. وكل الأفلام انجزت مشتركة في كتابة السيناريو مع صلاح أبو سيف.

في مرحلة اخرى، أضاف نجيب محفوظ فيلماً إجتماعياً عن قصة لفريد شوقي، وهو فيلم “جعلوني مجرماً” واخرج الفيلم عاطف سالم عام 1954.  ورغم إن كل الأفلام السابقة لها بعد إجتماعي، إلا أن الفيلم الاخير  كان له طابعاً اجتماعياً واضحاً، يبتعد عن الحركة والمغامرة التي يضيفها أحيانا صلاح أبو سيف. ومن الأفلام المتميزة فيلم الحركة “فتوات الحسينية” عام 1954. وسوف نلحظ أن سر إهتمام نجيب محفوظ بالفتوات، قد جاء انطلاقاً من   سياريو هذا الفيلم الذي شارك في كتابته نيازي مصطفى مع الإخراج مثلما حدث مع فيلم “جعلوني مجرما” مع المخرج عاطف سالم.

في عام 1955 يشترك نجيب محفوظ مع المخرج توفيق صالح في سيناريو فيلم “درب المهابيل” وهو من الأفلام المهمة في تاريخ السينما المصرية، لما يتسم به من  واقعية إجتماعية نقدية للأفراد والمجتمع.

هناك عودة إلى صلاح أبوسيف في فيلم” مجرم في إجازة” والفيلم الأهم ” الفتوة”، عام 1959. وتتوالى الافلام بعد ذلك .. النمرود، ساحر النساء، الطريق المسدود، جميلة بو حيرد، فيلم الله اكبر، ثمن الحرية، احنا التلامذة، الناصر صلاح الدين، شيء من العذاب، بئر الحرمان، الهاربة، دلال المصرية، إمبراطورية ميم، توحيده، ذات الوجهين، والمجرم. أثناء ذلك وفي عام 1959 كتب نجيب محفوظ قصة متميزة لفيلم جديد من نوعه على السينما المصرية وهو فيلم “بين السماء والارض”، حيث يتم رصد مجموعة من الشخصيات التي تركب مصعدا واحدا ليتوقف بها فترة من الزمن ولتكشف الأحداث عن شخصيات متفرقة، وكل شخصية لها عالمها الخاص بها.

لا بد أن نشير ايضا إلى فيلم متميز آخر كتبه بالأشتراك مع المخرج يوسف شاهين  ونقصد  فيلم “الاختيار”، عام 1971. صحيح إنه كانت هناك مشاركة ثنائية سابقة بين الأسمين، ولكن التجربة الثانية  ذات طابع سياسي تاريخي ونقصد “الناصر صلاح الدين”، عام 1963. والتجربة الاولى  إعلامية و دعائية سياسية ذات طابع نضالي، ونقصد الفيلم المتواضع “جميلة بو حيرد” عام 1959.

يبقى فيلم “الاختيار” بعيدا عن الدراما المعتادة، يقوم على تحليل شخصية واحدة تقريباً في شكل  تؤامين وهو استمرار لما كتبه محفوظ من قصص وروايات نفسية مثل: السراب، وذات الوجهين. وما عالجه في سيناريو بئر الحرمان عن رواية لإحسان عبد القدوس.

وهكذا تعامل نجيب محفوظ مع معظم المخرجين ومنهم صلاح أبو سيف، نيازي مصطفى، كمال الشيخ، حسام الدين مصطفى، توفيق صالح، حسن رمزي، يوسف شاهين، نور الدمرداش، حسن الإمام، حسين كمال، حسام الدين مصطفى، بالإضافة إلى فيلم “ساحر النساء” لفطين عبد الوهاب والذي كتب قصته، وكتب ايضا  سيناريو فيلم” االله أكبر” لإبراهيم السيد.

رغم كثرة روايات نجيب محفوظ المقتبسة للسينما، وايضا كثرة القصص القصيرة، إلا أنه ظل يحرص على عدم كتابة أي سيناريو لرواياته وقصصه فاختار أعمال غيره ولم يقترب من اعماله. ومن اشهر القصص التي تفاعل معها وكانت مكتوبة باقلام كتاب آخرين  بئر الحرمان، امبراطورية ميم، شباب امرأة، المذنبون، أميرة حبي انا، المطارد، شهد الملكة، وغير ذلك من الأعمال.

أما لماذا لم يكتب نجيب محفوظ سيناريوهات رواياته أو قصصه؟ فلذلك تفسيرات كثيرة، منها صعوبة إقتراب الكاتب من اعماله بعد الإنتهاء منها. لأنه سوف يجري تغييرات وإضافات وهذا غير مقبول من الكاتب نفسه، بينما يقبل الامر  من سيناريست آخر.

لنا تجرية مع الكاتب العالمي ماركيز، فقد كتب سيناريوهات كثيرة للسينما المكسيكية، والسينما الكوبية، وأسس ورشة لكتابة السيناريو، لكنه لم يعالج رواياته وتركها لغيره.

مهما يكن من أمر، ومهما كانت نوعية النظرة التي يرى بها نجيب محفوظ السينما، إلا أنه يدرك ان العمل المكتوب هو أكثر قرباً من صاحبه، وهو المعبر عن وجهة نظره، وإن الكتاب قابل لتعدد القراءات، بعكس السينما التي تسير  احيانا نحو  تسطيح الاحداث. ورغم أن الكاتب نجيب محفوظ  لا يعلق على الأفلام المقتبسة عن رواياته، إلا أنه لا يراها بشكل إيجابي عدا القليل ، ومن ذلك تعليقه السلبي على الطريقة التي قدمت بها الثلاثية ( بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) ومن الطبيعي أن يتحرر الكاتب من دائرة اعماله، عندما يقبل على روايات اخرى لغيره ، كما في اعمال إحسان عبد القدوس مثلا، والتي منحها ابعاداً اجتماعية لا تتوفر عليها في الأصل كما في فيلم انا حرة وفيلم الطريق المسدود، وكذلك في فيلم آخر اكثر اقتراباً من الجانب النفسي وهو بئر الحرمان.

ونشير هنا ايضا إلى أن نجيب محفوظ لا يحب أن يتعامل مع الأدب العالمي مقتبساً عندما يكتب السيناريو، إلا في حالات نادرة وفي الغالب تكون الفكرة قادمة من شخص اخر  كما حدث في رواية “تيريز راكان”،  للكاتب اميل  زولا والتي قدمت مرتين الأولى “لك يوم يا ظالم” والثانية بعنوان “المجرم”.

مع مرور الزمن، صار نجيب محفوظ محترفاً في كتابة السيناريو، وخصوصاً منذ أن تولى مهمة إدارة الرقابة السينمائية وكذلك مدير عام مؤسسة السينما. وفي جميع الاحوال كان هناك فاصل واضح بين نجيب محفوظ الروائي ونجيب محفوظ كاتباً للسيناريو.

من ضمن النقاشات التي جاءت على هامش إحدى الندوات في مهرجان دمشق السينمائي الدولي ما اورده أحد المتسائلين حول الأسباب التي جعلت الأدب المحفوظي محصوراً في مصر فقط ولم يتم الاهتمام به عالمياً، بمعنى انه لم تقدم السينما العالمية أي رواية من روايات محفوظ إلى السينما.

نعم، لقد حدث ذلك بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل العالمية (1988) وعن طريق السينما المكسيكية، بفيلم بداية ونهاية، لمخرجه المكسيكي “ارتور ريبيستين” وبعد ذلك فيلم “زقاق المدق” والتي قُدم تحت عنوان “حارة المعجزات” لمخرجه خورخي فوتس.

عدا ذلك لم يتم انتاج أي فيلم، والتساؤل يطال السينما في بلدان عربية ايضا، حيث لم تقم السينما المغربية أو التونسية أو الجزائرية أو السورية أو اللبنانية، باقتباس أي رواية لمحفوظ، حسب الضرورة وبما يتناسب مع الظرف الإجتماعي والمسار السياسي لكل دولة عربية.

لا إجابة واضحة، فمن الصعب تصور أن تنتج أي دولة عربية فيلماً يعتمد على رواية عربية صدرت في دولة عربية أخرى، بسبب قلة الانتاج السينمائي بصفة عامة، ولعدم الرغبة في تكرار الأفلام، وللصعوبة، وامكانات الصرف الإنتاجي الكبيرة، ولاعتبارات اقليمية عربية. الأمر نفسه ينطبق على السينما في مصر، والتي لم تمتد يدها إلى أي رواية عربية لتقوم بتمصيرها، رغم ان هناك روايات جيدة صدرت في عدة اقطار عربية.

والواقع أن الإنتاج العربي المشترك مع دول العالم ضعيف إلى حد كبير، وهو أمر يقلل من فرص اقتباس الروايات العربية بصفة عامة، رغم أن الرؤى العالمية تسمح بقراءة الأعمال الأدبية العربية بعيون واسعة، فيها تباين في المسارات ومستويات التحليل وفيها ايضا إستكشاف مغاير للنصوص والتعبير عن ذلك بصرياً وسمعياً ودرامياً.

شاهد أيضاً

*أولويات الإصلاح الصحي*

د.علي المبروك أبوقرين   حدث في العقدين الأخيرين تطور متسارع في التقنية والتكنولوجيا الطبية مما …