محمد الهادي الجزيري
كيف تحول نقصا أو ضعفا ما إلى قوة… هذا ما أفعله طيلة خمسة أعوام ونيف.. بسبب مرض.. بدأ ينسحب تدريجيا مني.. والحمد لله… فقد دأبت أن أجلس أمام التلفاز وفي يدي جهاز التحكّم عن بُعد، وبمجرّد الضغطِ على زرٍّ فيه أجدُ نفسي في غياهبِ التّاريخ، أعيشُ فترةً قديمة مع أناسٍ صاروا من زماااان سمادًا للأرض.
سأختار بعضَ المشاهد لأصورّها لكم أيّها السّادة القرّاء، مشاهد شدّتني وأثّرت فيّ وجعلتني أحسّ بألمٍ، كما سأصوّر لكم قومًا من النّاس كانوا أحياء… كأنّهم ممثلّون يقومون بأدوار، فمثلاً هذا الكهلُ المُلاعبُ لطفلةٍ بين ذراعيه، أكاد أكذّب نفسي وأقول أنّهما – لشدّة تعلّقهما ببعضهما – مازالا أحياءً يُرزقون، وأنّ الكاميرا تكذب علينا، فكلّ هذه الحياة لا يمكن أن تتحوّل إلى تراب تطأهُ الأقدام، كما ذكر المعرّي في زمانهِ وقال:
” خفّف الوطء ما أظنّ أديم … الأرض إلّا من هذه الأجساد”.
نظرتُ إلى الزّحمة الشّديدة والجموع الغفيرة المُحتشدة في جادة ”الشُنزلزي”، وبدت لي الوجوه الكثيرة العابرة وكأنّها وجهٌ واحدٌ مقسّمٌ بين الجميع، حدّقتُ في فتاة مُبتهجة تتدفّقُ في الّشارع الكبير مثلَ نهرٍ عذبٍ، خمّنتُ: هل تسرعُ لتلاقي حبيبها الأوّل أو لتلتحق بصلاةٍ في كنيسة الحيّ المُجاور؟ إلى أين تنظرُ المجموعة؟ هل مرّ موكب الرئيس المُحيّي للحشود من خلفِ نافذة سيّارته الفخمة؟ هل يعلمُ هذا الحشدُ المهلّل للزعيم البطل بأنّ آلاف الزعماء سيولدون من رحمِ المآسي والأزمات الّتي ستأتي لا محالةَ؟ ما الّذي تسبّبَ في شرود هذا الشّاب اليافع الأبيض؟ ألا يرغبُ هذا المنعزل في ركن صغير من المقهى في دعوتي لأتناول معه كوبًا من القهوة أم أنّه غادرَ المقهى وبحثَ عن فرصٍ للنجاة والحلم في عالمٍ يزاحمهُ فيه كثيرون؟ هل سافرَ بما يكفي وظلّ وحيدًا في عزلته تلك يهضمُ الصّور الّتي تراكمت داخله؟ هل تفكّر السيّدة المنكبة على آلة الخياطة في كلّ الفتية والفتيات الّذين سيرتدون الأزياء الّتي أخذت تخيطها بحبّ صادق وذوق رفيع؟ هل تعلم أنّ شعراء صعاليك قد يحلمون بالتحوّل إلى قطعة قماش تشكّلها مثلما شاءت إرادتها؟ كلّ هذا لا يهمّ، تعبك أيضًا لا يهمّ أمام عظمةِ الحقيقة…
حقيقةُ أنّ كلّ شيءٍ يمكنُ أن ينمحي فجأة، بضغطة زرّ أو بمفعول الموت والزمن، أفكّر في هذا الموت اللّعين، أيموت كلّ الخلق ويتلاشوا ليصيروا مُجرّد ذكرى؟ هل يموتون ولا تبقى إلّا قلّة قليلة لتعلق في ذاكرة البشر وفي هوامش كتب التّاريخ؟ أيّ ذاكرة هذه وأيّ سحر يجعلنا نعيش حاضرنا ونجرُّ خلفنا كلّ الماضي؟
لكلّ منّا ذاكرة تطمحُ إلى حفظ الأشياء والأسماء والصّور الجديدة، تفتخرُ بها وتقول: أتذكّر فلان، أعرفُ حادثة، أتذكّرُ قصّة، معزوفة موسيقيّة، اسم كتابٍ أو كاتب.. تقاومُ الذاكرة لتُبقي جزءًا بسيطا من الموتى أحياء، ولكنّ أغلبَ ما وقعَ تمّ نفيهُ ببساطةٍ في مقبرة العدم.
أكتب صرختي هذه لأؤكد أنّ العالم مجموعة أشكال وأشياء وأسماء وصور، تمحى وقت ما يشاءُ الشخص الممسك بجهاز التحكّم عن بعد أو مثلما يشاءُ الموتُ، البطلُ المُنتصرُ دومًا، سواء أطلّ علينا في شكلِ جائحة أو تسونامي أو تسلّل إلينا بخفّة وسلاسة وقبضَ روح أحدنا في صمتٍ وهدوء.
لقد عرفت الإنسانية مجاعات وحروبا كثيرة، وهاهي تقاوم مجدّدًا أزمةً استثنائيّة وغيرَ مسبوقة تهدّدها بالفناء، ولكنّي أقول: لن نموت الآن، لن تنتهي قصّتنا في زمنِ الغبار… وسنرى…