حمزة جبودة
قررت أن أشاهد الوثائقي “مستقبل زاهر- صناعة حلم” قبل أن اكتب عن الحلقة الأخيرة من المسلسل الذي استمتعت بمشاهدته، وبعد أن شاهدت الوثائقي. أيقنت أن قراري كان صائبًا، لأن الكاتب والمخرج نزار الحراري، منحنا فرصة لفهم كيف بدأ الحلم وكيف تحقق؟ وهذه الفرصة كانت هدية من أسرة العمل للجمهور، حتى يقتربوا من تفاصيل القصة التي لامست قلوبهم وعقولهم، وتذكروا معها حياتهم اليومية وهم يشاهدون عائلة “بن رافع” التي حكمت ومازالت تحكم في ليبيا إلى يومنا هذا!
من هُم الشهداء في ليبيا؟
مشهد “سعدة”- الفنانة نجلاء بن الامين– وهي تسأل عن ملف زوجها وابنها في المؤسسة المختصة بالشهداء. ثم تتلقّى جوابًا أن زوجها وابنها ليسوا شهداء، مشهد صادم يكشف عبثية المؤسسات الرسمية، بعد العام 2011. بجُرّة قلم يُمكن أن يصبح المرء “شهيدًا” أو “قتيلاً”. في بلدٍ من المفترض أن أهله كلهم مسلمين. “الأستاذ حسن” وابنه، كان عليهم اختيار الانضمام إلى عصابات تهريب الوقود والبشر والمتاجرة في السلاح وسرقة أموال الدولة، حتى يتم تسميتهم بأنهم شهداء الواجب.
حقيقةً حاولت فصل الواقع عن العمل الدرامي، وفشلت، وإن قلتُ لكم مثالاً إنني نجحت في الفصل بينهما، عندها أكذب على نفسي أولاً ثم أكذب عليكم ثانيًا.
خيال الكاتب والواقع: قصة وجع
بدأ الكاتب والمخرج نزار الحراري، عمله الدرامي بصرخة وجع، على طريقته، في التنويه الذي كان مفتتحًا لكل حلقات “مستقبل زاهر”.
“كل الأحداث الواردة هي من وحي خيال الكاتب، ولا علاقة لها بواقعنا الجميل، ومستقبلنا الزاهر، وأي تشابه بين القصة والواقع، هو من قُبيل المصادفة”.
وأنا على يقين أن كل من قرأ هذا التنويه، قرأهُ بسخرية وتهكم من واقع ليبيا، لأن ما قدّمه العمل جزء بسيط جدًا من واقع الحال. كلنا قرأنا هذا التنويه بوجع مختلط بالغضب من أنفسنا أولاً وأخيرًا، ولكن للأسف هذا الوجع المختلط كان في الوقت الخطأ في الحلقة الأخيرة، كما هو واقع حالنا بالأمس واليوم وربما غدًا، حين نُدرك متأخرين، أننا وثقنا في مجموعات بشرية اكتشفنا أنهم خونة وقَتَلَة، في الوقت الخطأ.
نفوذ “عيلة بن رافع” والخوف:
بلا شكّ كل مشاهد ومشاهدة، حاولوا إسقاط عائلة بن رافع على بعض الأسماء في ليبيا، وهي كثيرة بالمناسبة، ولكن ما لم نستوعبه، أن هذه العائلة موجودة في كل قرية وكل مدينة وكل منطقة في ليبيا، “عيلة بن رافع” هي صناعة ليبية وليست مستوردة، أي أن قوتها وزعامتها صُنعت في ليبيا، بسلاح يحميها، على أكتاف الأطفال والمراهقين والبسطاء أو غير البسطاء من شخصيات اعتبارية ورسمية في كل البلد.
هذه العائلة قوتها الحقيقية، تكمن في توجيه الرأي العام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي أظهره المسلسل في كل حلقاته، عبر مجموعات من “المرتزقة” الذين يُمجّدون القَتَلَة الفاسدين. والسلاح الثاني هو الخوف. وظهر هذا في مشهد قتل “عيلة بن حمد” وكيف نشر “صبيان” عائلة بن رافع “المجزرة” على فيسبوك، لتكون الصور عِبرة لكل من يتحداها. هكذا ببساطة يُقتل البشر عبر “لايف فيسيوك” وكأنها لعبة من ألعاب الفيديو لا جريمة مكتملة الأركان ولا تحتاج إلا لفرض العقاب على القَتَلَة.
صرخة “سعدة” والناجي الوحيد:
قبل أن تتخذ “سعدة”- الفنانة نجلاء الامين– قرارها بالحديث أمام الرأي العام لكشف حقيقة “الدكتور”- الفنان القدير فرج عبد الكريم- لإبلاغ الناس بحقيقته وأنهم يجب أن لا يُصوّتوا له، قالت: “أنا معاش عندي ما نخسره، وعشان مستقبل ولدي زاهر، لازم فيه حد يتكلم”. سعدة اتخذت قرارها فقط انتقامًا لزوجها وابنها حامد، وبقى لها ابنها زاهر فقط. وهنا علينا أن نسأل أنفسنا: هل نحتاج كل هذه المآسي لنتكلم؟ هل يجب أن نرى إجرام هذه العائلة بأعيننا حتى ننتفض ضدها؟!. وعندما نعود لحياة سعدة الطبيعية، نجدها الأم والزوجة فقط، لا المرأة القوية التي حرقت كل طرق “العودة” لأجل ابنها.
لن أقول أن سعدة هي ليبيا في المسلسل كرمزية درامية، بل سأذهب إلى قول أن الوطن الحقيقي هو الأسرة الصغيرة ثم العائلة ثم الشارع والحي والمدينة والمنطقة وبعدها كل ليبيا، وعند اهتزاز أي عنصر من هذه الحَلَقَة، هو انهيار للدولة، ولأي دولة.
حين وصفت “سعدة” ابنها بأنه “الناجي الوحيد” هي ألغت وجودها بطريقة صادمة، وصفته هذا الوصف لأنها اعتبرت نفسها “تاريخ” لا “مستقبل”، وهذا كان واضحًا في حديث “نوارة”- الفنانة القديرة لطفية إبراهيم- “بالنسبة لينا احني، مستقبلنا خلاص، معاش لازمنا في شي، لكن المستقبل توا لولدك واللي زيّه”.