زايد…ناقص
جمعة بوكليب
ربما كان حرصُ الشعراء، قديماً وحديثاً، على تجاهله، ودأبهم على الإحتفاء بفصل الربيع ومباهجه، سبباً. وقد يكون السببُ ما يحدثه في النفس الإنسانية من تداعيات مجازية، تذكر بأفول الشباب، وتساقط أيامه من شجرة العمر على الأرض يابسة لتذروها الرياح. بل، ولعل السبب يكون بتزامن حضوره بانتهاء إقامة الصيف، وايذاناً بقرب حلول الشتاء وما يحمله في جرابه من عواصف وأمطار وثلوج. وربما كل تلك الأسباب مجتمعة وغيرها، وقفت حاجزاً بيننا وبين الخريف وجدانياً، وجعلت موقعه في قلوبنا يتموضع في مرتبة دنيا لا تليق به، ولا يستحقها منّا. لكن الخريف مظلوم. وليس مسؤولاً عما يحمله الناس من أفكار تجانب الواقع وتناقض الوقائع، ولا علاقة له بما تشكّل عبر الزمن في أذهانهم من تصورات خاطئة.
الخريفُ فصلٌ مميز. أرضٌ محايدةٌ، تفصل بين فصلين – مملكتين، لا تجمع بينهما خصائص مشتركة، ولا يمكنهما التفاهم على صيغة سلمية للتجاور والتحاور. لذلك، غالباً ما يجيء موسوماً بملامح ممتزجة من خصائص الاثنين.
تعودنا نحن البشر، عبر الوقت، أن ننظر إلى الخريف بعين واحدة، وبذاكرة غير حيادية. تذكيراً بما يحدثه الخريف، الشاعر البريطاني “روبرت فروست” يقول:” لا شيء ذهبي يبقى.” “فروست” يشير إلى غياب ما تبقى من نور الصيف مضيئاً في أوراق الشجر. مالم يقله “فروست” هو أن أوراق الشجر المتساقطة، لا تضيع في العدم. الذهبي، كما وصفه، يعود إلى عمق الأرض، ليهب الشجر حياة، ويجعله أكثر أغصاناً و أوراقاً وثماراً، وأنقى ذهباً. والغابات، كما لو عجنت بين يدي ساحر، تكتسب حمرة حيوية شديدة الإغواء، تضفي رونقاً على الكون، وبهاءاً على الطبيعة، وتصير بهجة للقلوب والأبصار. اختفاء طيور السنونو من السماء، يبعث في نفوس الكثير منّا الاحباط. وننسى أن غيابها لايعني أن هجرتها ستكون فقط مؤقتة إلى سموات أكثر دفئاً وضياءً، بل إعلان عن قرب موعد احتفاء سمائنا باستضافة طيور مهاجرة أخرى، بأجنحة و سقسقة متعددة الألوان والأصوات تزيد في روعة لوحة الفضاء. نرى النهارَ أقل دفئاً وضياءً وأقصر عُمراً، ولا نرى تمدد أجساد ساعات الليل. وكأن الليل عدوٌ، وليس صديقاً، تعودنا أن نودعه أخصَّ أسرارنا، وأكثرها صدقاً وحميمية.
عشاقُ الخريف يذكروننا، دوماً، بأن “الخريف أكثر دقة من الصيف وأقل حتمية، وعنوانٌ لبدايات جديدة وعديدة.” فهو فصل لتخصيب الحياة. الحقول الشاسعة تستلقي في انتظار أن تشق تربتها المحاريث، وتخصب بالبذار. ليس فقط الحقول. المدارس أيضاً تفتح أبوابها وشبابيكها لتستقبل التلاميذ. الموظفون ورجال الأعمال يعودون نشيطين من إجازاتهم السنوية، للخوض في غمار اعمالهم. حيويةٌ خصبة تُضخُّ في دم الدنيا، فتنهض مجدداً من رقادها، نازعة عن جلدها ما ترك نهار الصيف الطويل وحرارته من بصمات.
الخريفُ فصل الوفرة. تجود الطبيعة بثمارها و بزهورها وورودها . وتعمر موائدنا بكرم ما تضعه من فاكهتها وخضارها أمامنا. نحن لا ننصف الخريف حين نردد ونكرر بأنه فصل اقتراب الموت، وليس بدء الحياة. الذين منّا يدخلون بأقدام مترددة فصل خريف حياتهم، يتجاهلون نعومة ما خلفوه من أقدام طرّية، تتعثر في سيرها، يحركها توقٌ للخوض في مسارب الحياة. هل هي الأنانية البشرية في أكثر تجلياتها فصاحة، أم هو الجحود البشري وقد توطد وترسخ عبر الأجيال؟
مرحباً بالخريف. وأهلاً وسهلاً به بيننا. افتحوا أمامه أبواب قلوبكم وبيوتكم وشبابيكها لكي يدخلها محمّلا بهداياه و بعطوره. وأنتم أيها الشعراء، أينما كنتم، حان الموعد كي تنتبه قصائدكم من غفوتها، وتفتح عيونها على جمال الخريف وروعته.