منصة الصباح

مدن تلمع في غيهب الذاكرة

محمد الهادي الجزيري

 

في غيهب الليل..تستحضر ذاكرتي عواصم ومدنا وقرى لوّحت لي وما تزال تلوّح في رحاب الذاكرة..بأضوائها وفوانيسها الساطعة في ظلمة الليل… وتناديني : أن هيت لك.. تعال فأنا في انتظارك..

بمن سأبدأ وكلّ الأماكن عزيزة عليّ .. وجهات وربوع كثيرة آوتني وأكرمتني وكنت في أيام وصالي معها.. بمثابة عاشق أو ابن مبجّل أو عابر سبيل مسالم .. سأنطلق من ليبيا ومن رحلة عزيزة على قلبي.. وقد كان معي الفقيد الراحل بلقاسم مزداوي.. لقد كانت الحافلة تسير وتأكل المسافة.. ولكني بفعل الشوق والحنين لكلّ من ينتظرنا.. كنت متلهفا وكان المرحوم بلقاسم يهدأ خاطري : “يا راجل خيرك.. بعض الوقت ونصل” ويأخذني في جولة فكاهية مما يرويه لي وللأصدقاء من نوادر وملح.. فقد كان طريفا ظريفا رحمه الله..، لكني أرى أضواء تلوّح لي من بعيد.. وأسرع إلى الصياح :ها نحن قاب قوسين من ” هون” فيخيب أملي.. لكم كانت تلك الرحلة مضنية بالنسبة لي.. فأنا تونسي لست متعودا على مسافة طويلة كالفاصلة بين طرابلس ومدينة هون..، المهم بعد وقت ما تجلت عروس الصحراء الليبية هون.. وما يزال مدخلها منحوتا في ذاتي.. لا زلت أذكر الشارع الطويل.. بفوانيسه المتلألئة المرحبة بنا.. وثمة مجموعة من الدكاكين على جانبي الطريق.. معدة لبيع التمر والحلوى والعصير ومختلف ما تشتهيه النفس.. المهم أننا وصلنا وبحنا بأشعارنا ورؤانا.. وقضينا وقتا طيبا في ظل سادة بالغوا في الحفاوة بنا.. وما تزال هذه الحفاوة عالقة بالذاكرة…

ثمّة جهات ومناطق وبيوت عدّة تسكن الأنا وتلمع في داخلي ..أحتاج أوراقا بلا حساب وقرّاء عاطلون عن الحياة ..حتّى أسرد لكم قائمة الأماكن القابعة فيّ ..كبغداد عاصمة الجرح الأكبر وقبابها المزركشة وجسورها الممتدّة على دجلة والفرات ..، نعم فلسوف أعود إلى كلّ ما يريد القلب ..إذا شاء الله ..وأغمض الموت عينه ريثما أكتب ما أريد ..ولكني لن أفارقكم هكذا ..فلي مدينة بديعة لها عندي وفيّ وشم ..سيبقى معي إلى الرحيل النهائي …سنذهب توّا إلى المغرب ..فلنسافر على متن الكلمات …

المغرب ..وما أدراك ما هو ..تسكنني مشاهد ومواقف لا تُنسى ..مع كائنات من شفق ونور

قضيّت معها أجمل أيام في حياتي ..وأروعها حادثة وقعت لي مع مدينة شفشاون الأندلسية وهذا ما حدث بالضبط …

كان الظلام مخيما على المكان.. وكان صوت الرذاذ رائعا وهو يسقط على السيارة.. وكنا ثلآثة إخوانا بأتم معنى الكلمة.. نبحث في حلكة الليل عن وردة الفجر.. نبحث في ضياعنا عن كائن نحبه جميعا.. ولكني أعشقه وكتبت عنه شعرا مذهلآ.. كنا نسإل قلة العابرين عن مكان ما.. فيدلنا بعض الناس.. ثم نتوه.. كان أكبرنا سنا وموهبة وحكمة الزجّال الكبير أحمد المْسيح..وقائد الرحلة سائقنا الشاعر محمد الزرهوني…. أما ثالث الأثافي.. فما كان سواي.. صاحب الفكرة والرغبة… سلكنا الدرب عند الغروب.. وكانت المسافة الفاصلة تقدر بخمسين كلم… انطلقنا.. وما هي إلآ دقائق حتى تفطنا إلى أنّ الطريق خاطئ.. ومع ذلك ظللنا نمعن في الشك والصواب إلى أن توغلنا في طريق الضياع… وقضينا ساعتين أو أكثر في مشاكسة بعضنا.. وفي الدعابة والنكت والضحك..، إلى إن بانت شفشاون من فوهة الشجر والمطر والظلمة.. لم أكن قد زرتها من قبل.. وقد حدثني عنها العديد من الأصدقاء هنا في المغرب وفي تونس.. وقالوا لي هي مدينة أندلسية تتميز بلونين الأزرق والأبيض.. ولكن لم أراهما فلقد كان الليل متوغلا فيها.. والحمد لله أننا وصلنا أنا والصديقان الحميمان.. وقبل أن أستودعكم الله ..إلى مقالة أخرى .. أترككم مع هذا المقطع الذي كتبته.. ولم ينشر بعد..

شفشاون هلاّ تجلّيت لي يا ابنة القممِ

لست ذئبا ولا غازيا

بل أخ بشهادة وجهي

ولست أريد سوى صنمي.

شفشاون ها تومضين ليَ الآن

من غيهب الليل والشجرِ

كيف أشكر أختا تلوّح لي بفوانيسها

وتبارك ركب الحجيج المجانين بالمطرِ؟

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …