محمد الهادي الجزيري
أميل إلى حبّ النصوص ذات السخرية اللاذعة ..، المثيرة للضحك ولو كان ” ضحكا كالبكاء ” ، فالكتابة الحقيقية من تجعلنا نموت ضحكا على أنفسنا وعلى الآخرين ، وفي مجموعة الكاتب والصحفي المصري شريف صالح ” مدن تأكل نفسها ..” تجد نفسك سيدي القارئ في مواجهة عاصفة قويّة من الضحك الهستيريّ .. من أوّل فقرة تقرأها ..تلتزم أوّلا بالحياد وعدم الاكتراث ..ثمّ تتوالى الفقرات وتلقى نفسك بالونة مهيّأة للانفجار بالضحك ..وهذا ما كان معي إثر نهاية نصّ القصة الأوّل : ” مملكة الضحك “..، نقرأ له في هذا المتن حكاية مستوحاة من الإرث القديم ..، يسقطها على وضعنا العربي بعبوسه ووجومه ..، متسائلا عمّا فعله بنا وبضحكنا هذا الوطن ..، وفي نهاية القصة ينخرط الكلّ في عدوى الضحك:
” آلاف الضحكات انطلقت وتمازجت في كتلة صوتية هائلة ، ففي هذا اليوم المشهود أكل أبناء ” سانشو بانشو ” أمخاخ بعضهم البعض ، وماتوا في نوبة ضحك لا نهائية : هاء هاء ها ..هيئ هيئ هيئ .
القصة الثانية بعنوان ” مسمط الشيخ مسعد فتّة ” تمسح فترة زمنية طويلة عاش فيها بسترودس الجدّ والابن والحفيد ..وتوارثوا خلالها (كازينو) فيه مطعم ومرقص وقرب البحر ..، ويتعرض القاص شريف صالح إلى حيوات كثيرة ضمن عجائبية ممتعة وغرائبية طريفة ، والأهم مختارات هؤلاء الثلاثة المنتمين لنفس السلالة ..لفائدة الكازينو وتغييراتهم من فترة زمنية لأخرى ..، ويقصّ علينا كيف انتهى كلّ واحد منهم ، والملاحظ يرى أنّ الكاتب مصر على السخرية من العالم.. (أحيانا أشك أنه يضحك في ورشة الكتابة من نفسه. . هذا كاتب يستحق الاهتمام وأشكر أنيس الرافعي على تعريفي به)
نعود إلى القصة ونقتطف منها مقطعا يصف لنا كيف ومتى مات الجدّ بسترودس ، حتى في وصفه للموت لا تخلو لغته من نبرة ساخرة متهكمة :
” لم يفزع بسترودس لأن الزمن نال من وسامته، قدر فزعته من اندلاع الحرب العالمية الثانية، ففي تلك الأيام كثرت ” سرينات” الإنذار وانقطاع الكهرباء، ولم تعد المواد الغذائية تصله بالجودة التي حددها، ما اضطره إلى الذهاب بنفسه إلى أسواق بعيدة في الريف، إلى أن قضت عليه غارة مباغتة، لا يعرف إلى اليوم : هل نفذها الإنجليز أم الألمان ”
قصص المجموعة طويلة نسبيا وهي إحدى عشر قصة ، كتبها حسن شريف من جسده وسهره وأرقه ، هذه هي الكتابة الجديدة التي نبحث عنها وندافع في الملتقيات والندوات عنها ، كتابة تستغل ما تعلمّه الشخص من معارف وعلوم ليكتب ويصوغ آلاما حقيقية وأحلاما مؤجلة ..، كتابة تجعلك تضحك من وضعك وشعبك أينما كنت ..تُلقي الأسئلة ولا تُجيب أبدا ..وذاك دور الكاتب الحديث …
أختم هذه الجولة السريعة في ” مدن تأكل نفسها ” بقصة عنوانها ( مؤتمر المؤتمرات ) وفيها رمزية عالية لحالنا ووضعنا ، وهي تتحدّث عن مدينة ” البقرة الملونة ” التي تتميّز عن باقي المدن بثلاثة خصال وهي : إقامة المؤتمرات وتحقيق الأرقام القياسية وتوزيع دروع التكريم ..، وهذه عادة ممجوجة ورثناها من قديم ، على كلّ نحن في حضرة كاتب يهذي بالحقيقة ويكذب صادقا ويتخيّل واقعا ..وتلك حالنا للأسف الشديد ، نسيت أن أشير أن شريف صالح يكتب الآن وضحكة واسعة تحتلّ وجهه :
” وفي الساحة الشعبية القديمة احتفلوا بأكبر كيس شاي في العالم ، كان يزن ربع طنّ ، وقبل استكمال طقوس الاحتفال وتوزيع الدروع ، حدث ما لم يكن في الحسبان ، انكسر ـ أثناء النقل ـ الفنجان الذي تمّ تصنيعه كي يُوضع فيه كيس الشاي العملاق ، وأحيل عمال الشحن إلى النيابة “