خلود الفلاح
المدينة ليست مجرد جغرافيا، بل ذاكرة وحنين وتتحول في الأدب، إلى شخصية حية وشاهدة على تحولات المجتمع. فكيف كتب الأدباء عن مدنهم؟
بعضهم جعلها تنبض بالحنين والتفاصيل، كما فعل نجيب محفوظ في رسم أحياء القاهرة، وجبرا إبراهيم جبرا في حديثه عن القدس.
في المقابل، تعامل آخرون مع المدينة باعتبارها شاهدة على أحداث كبرى، من حروب وتحولات اجتماعية وسياسية، كما كتب الطيب صالح عن الخرطوم، وغسان كنفاني الذي وثق نكبة المدن الفلسطينية، وصولًا إلى قصائد محمود درويش.
في هذا الاستطلاع، يفتح محمد الأصفر، وفاطمة الناهض، وأحمد السلامي قلوبهم لمدنهم، بين حب لا يزول وقسوة لا تنسى. وهنا نسأل، كيف يمكن للأدب أن يحفظ ذاكرة المكان من النسيان؟
الاستعانة بشكل جزئي بالخيال

اعترف الروائي محمد الأصفر بأن كتاباته الأولى كانت عن مدن لا يعرفها جيدا، عاش فيها فترة قصيرة، أو قرأ عنها في الكتب، أو شاهدها في أفلام سينمائية، تبناها وجعلها مدنه وكتب عنها، مثل تشاد وجبال الهملايا وجامايكا ومدن إسبانية أخرى لم يزورها، مستطردا: “بعد مدة كتبت عن مدينة أعرفها جيدا، عشت فيها كل عمري، وهي بنغازي، ولا داعي لقدح الخيال والاعتماد عليه بشكل كامل، كتبت عن الواقع الذي نعيشه. فكانت روايات تقودني نجمة وشرمولة وملح ولاحقا في جامايكا وركلة جزاء وعلبة السعادة ومذاق الريشة وأيضا في عدة قصص وردت في كتبي حجر رشيد وحجر الزهر والبطل يموت من أول لقطة”.
ويتابع: ووجدت أن الكتابة عن الواقع أمر صعب، الخيال يمكنك أن تضحك عليه وتتحايل عليه وحتى تكذب عليه، لكن الواقع مستحيل، أي كلمة ليست في محلها ستصفعك فورا، ومن هنا عليك بأن تكتب الحقيقة كما رأيتها وعشتها بالضبط، كتابة لن تضيف للقارئ أي شيء، فالأحداث التي تناولتها حرب، هدم نادي الأهلي، هدم تمثال جمال عبدالناصر، أحداث القنصلية الإيطالية، عمليات الاعدام في مجمع سليمان الضراط وميادين ومدارس بنغازي وبعض مدن ليبيا أشياء معروفة وعاشها معظم القراء على الطبيعة ومن ولد ولم يعشها يكون قد شاهدها مرئيا، ومن هنا لابد من حل، لا ينبغي للكاتب أن يستسلم للواقع ويكتبه كما هو بالضبط.
ويضيف: “الحل هو الاستعانة بشكل جزئي بالخيال، طريقة تقديم رغيف خبز في صحن نظيف وبابتسامة تختلف عن تقديم خروف مشوي بتكشيرة، فمن خلال مزج الواقع ببعض الخيال يجعل الواقع مختلفا عن ما عاشه الناس، فيتم قبول الجانب الخيالي من الحدث الذي عاشوه، يقول أحدهم لعلنا عشنا الحدث من زاوية واحدة، لكن هذه زاوية أخرى ليست نشازا، كيف لم نره؟ وهنا يكون الفن قد أدى دوره بمنح زوايا أخرى للواقع المعاش تثري العمل وتحترم القارئ وتطلب الصفح من المؤرخين المحبين تأريخ كل شيء بشكل دقيق محكم حفظا للذاكرة وللماضي، وتقول له معك حق الأجيال القادمة يهمها معرفة الحقيقة، ويهمها أيضا أن تعرف كيف كنّا نغني ونرسم ونكتب ونطير في الهواء”.
تأثير تاريخ المدينة على الرواية
من جانبها، تحدثت الروائية فاطمة الناهض عن المدينة في الرواية، بالصورة التي تتطلبها الرواية فكانت احيانا واقعية واخرى فضاء متخيلا. على سبيل المثال في روايتها (خط الاستواء) بنت بلدة كاملة متخيله أسمها خط الاستواء، مستعينة بكل ما يتطلبه الأمر من تاريخ وجغرافيا وطقس وطبيعة جيولوجية ليجعل منها بلدة حقيقية نابضة بالحياة. يتحرك أبطالها كأنهم من لحم ودم تفترسهم الظروف وتلعب بهم رياح التغيير وتلون مشاعرهم وتتحدى قدراتهم.
بلدة وعرة متربة بعيدة مقطوعة. يقطعها قطار قديم مرتين في اليوم. وهو شريان حياتها. بلدة مصنوعة بالكامل من الخيال بكل من فيها.
وترى الناهض أن الحكاية لا تحدث في فراغ. لابد لها من إطار زمني ومكاني يجعلها ممكنة بالصورة التي تحدث بها في الرواية وربما أثرت معالم المدينة الجغرافية والجيولوجية والمناخية والاجتماعية والتاريخية على طبيعة الرواية وتدخلت بطريقة ما، في شكلها وفكرتها وقيمتها أيضا.
وتكمل ” في روايتي (القفلة) فإن المدينة حاضرة بكل ألقها وتشعباتها المظلمة. حيث كانت البطلة تمشي وتعترضها اليافطات المسماة بأسماء الشوارع والأماكن. وحتى أسماء الدكاكين والأحياء. بما لا يدع مجالا للشك بانها المدينة الفلانية بالاسم والتوصيف والحدث. وهنا تم التعامل مع المدينة كمكان واقعي. أما في رواية (بيت البحر) فلم تذكر المدينة على الإطلاق، ولكن يمكن بسهولة الاستدلال عليها ومعرفتها بالأحداث والصفات والتراث والحكايات الشعبية والأحاديث الجانبية وذكريات الأبطال. يمكن اعتبار ما تتطلبه الرواية فكرة واحداثا وتحققا هو المحدد لطبيعة المكان واقعيا كان أم متخيلا بالنسبة لي. ما لم تكن الرواية توثيقية وتتطلب معلومات محددة عن مكان بعينه.
للمكان في السرد نكهة مختلفة

ويلفت الروائي أحمد السلامي إلى أنه قطع الصلة في روايته “أجواء مباحة” بالحنين إلى صنعاء. مستطردا : ولم تهمني المدينة بأسوارها وقصورها، لأن سياق السرد استدعى التعامل مع صنعاء التي تعيش كابوسها الممتد في الحاضر، وانعكست في روايتي كفضاء متشظي ومدينة لا تشبه المدن، بسبب فرادتها في الانهيار وجمع المتناقضات، ولهذا وصفتها في الرواية بأنها: “ملهاة القروي الهارب إلى ما يشبه المدينة المؤجلة وأراها من بعيد قرية كبيرة لكنها تتخذ شكل المدينة باتساعها، فيما تتلون من داخلها بعادات النازحين إليها بحثاً عن الفرص والمهن، إنها القرية التي تتداخل فيها اللهجات ويلمع نصل الجنابي في رقصة الحرب في أعراس عاصمة مسيجة بالقبائل والجبال وثارات الحروب الصغيرة.
حول الواقع والخيال في الرواية، فالإجابة هي الاثنان معاً. وظّفت صنعاء الحقيقية كمسرح لأحداث ملموسة، فهي المتاهة البيروقراطية التي يتوه فيها بطل الرواية بحثاً عن حقيقة مقتل أخته، وهي صالونات الفساد التي يجري فيها الترتيب مع الغرباء لصفقات الموت. لكنها في الوقت نفسه فضاء رمزي ومتخيل، هي معادل موضوعي للخراب الداخلي لشخصياتي وللوطن ككل. مدينة كأنها تجسيد مادي للفراغ السياسي حرفيا، وهي المركز الحقيقي والمجازي للانهيار الذي نعيشه في اليمن حتى اللحظة الراهنة.
يتحدث السلامي عن صنعاء بؤرة مكانية لمجتمع مأزوم ودولة فاشلة. وكل شخصية في الرواية كانت أداة لكشف جزء من هذا الجسد المريض. من واقع الصحافة التي تحولت إلى أداة للابتزاز والفساد بدلاً من أن تكون سلطة رابعة، إلى ضياع أكثر من جيل بلا أفق مستقبلي، إلى النخب السابقة التي أسست للفشل وتقاعست عن مسؤولياتها، مكتفية بتهديدات فارغة بكتابة مذكرات لم تُكتب أبداً.
ويرى أحمد السلامي أن “دور الأدب جوهري جدا في حفظ ذاكرة المكان، وكل الروايات التي نقرأها ويبدو فيها المكان بارزاً تظل تأسرنا تلك الطبوغرافيا كما وردت في النص، حتى عندما نعثر على المكان في الواقع نبقى في حالة استدعاء للمكان المنحوت بالكلمات، في محاولة لمطابقته مع الواقع أو العكس. وللمكان في السرد نكهة مختلفة تشبه الخلود، وسرعان ما يتحول من فضاء مكاني إلى فضاء متصل بالوجدان، لأن التخييل يفعل فعله بالأمكنة ويمنحها تلك الطاقة التي تتغلب على فجاجة الواقع. وعندما يبتكر الأدب أمكنة متخيلة ينتصر للذاكرة ويمنحها طاقة الخلق وليس فقط الاختزان”.