بقلم / جمعة أبو كليب
حين توصل الانسان إلى فكرة العيش في تجمعات مستقرة ، وأبتدع المدن، حرص على إحاطة تلك المدن بالأسوار لحماية نفسه من غزو الطامعين. ونجحت الأسوار في تلك المهمة إلى حد كبير، لكنها بمرور الوقت وتطور الأحوال الحياتية، تحولت إلى أداة ووسيلة في يد الحكام تتيح لهم التحكم في مصير من يعيشون داخلها. وصار الدخول والخروج بيد الحاكم، يمنحه لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء. وأدرك الانسان، متأخراً، أن الأسوار التي بناها لحمايته تحولت بفضل السلطة إلى سجن مفاتيح أبوابه في يد الحاكم.
قبل أن تختفي الأسوار، بتطور الحياة في المدن ، أبتدعت السلطة أسواراً غير مرئية أطلقت عليها اسم القوانين. الغرض من القوانين لا يختلف، في الأصل، عن الغرض من ابتداع الأسوار. إذ على السطح، يتجسد الغرض منها في تنظيم الحياة البشرية وحمايتها. وتحت السطح، فإن الهدف يتجلى في حماية السلطة، واخضاع الانسان وتجريده من حريته.
لذلك، كلما عاش البشر في بلدان أكثر تحضراً، تقيدها القوانين، صاروا أكثر طاعة وموالاة وخوفاً من السلطة، وتنازلوا، برضاهم، عن حريتهم مقابل أمنهم. ثمن الحضارة والعيش في مجتمع حضاري يعني قبول الانسان بالتنازل عن جزء كبير من حريته.
لكن الانسان كائنٌ حر. ولكي يستعيد ما سلبته السلطة من حرية، لجأ إلى الخيال، ولجأ إلى الفن ليمارس فيه كينونته المسلوبة، وحريته المعطلة. لذلك، يقال إن من أهم وظائف الفن، افتكاك الانسان لذاته المصادرة سلطوياً، واستعادة ما سلبته السلطة من حريته. وهنا، ومن هذه النقطة تحديداً، يمكن القول بدأ عداء السلطة للفن، وكراهية الحكام للفنانين، وتاريخ بدء الصراع بين القطبين. ورغم قوة وشدة السلطة وجبروتها، إلا أن الفن نجح في الإفلات من أنيابها وشباكها، بل ومصارعتها، وارغامها على تقديم تنازلات. لكن قبول السلطة التنازل كان مؤقتاً، بغرض كسب الوقت. وبدلاً من مصادرة الفن و محاربة الفنانين واضطهادهم وتهديدهم بالموت والسجون، توصلت السلطة، بوسائلها العديدة، إلى تبني أسلوباً جديداً يقوم على استبدال العصا بالجزرة!
وبذلك، فإنها، مبدئياً، نجحت في دق اسفين بين الفنانين الذين انقسموا شطرين: شطر قَبِلَ بالتعايش مع سلطة تملك العصا وتقدم الجزر، مفضلاً قضم الجزر. ونصف رفض الانصياع للسلطة، والتنازل عن حريته وكينونته، مفضلاً الجوع عن قضم جزر مغموس في الذل والخضوع.
ومنذ ذلك الوقت، وُجِدَ المنفى. ولسوء الحظ، فإن المنفى – الملجأ تحوّل ، هو الآخر، بعد وقت، الى سلاح بيد قيصر روما، حينما أكتشف ان الشاعر أوفيديوس يتغزل بقصائده في قريباته. فأمر بطرد شاعر روما من روما. وأستيقظت المدينة، صباح اليوم التالي، لتكتشف أن اوفيديوس أقتيد مكرها، ومقيداً بالاصفاد، من قبل الحرس الامبراطوري إلى مركب أبحر به إلى منفى قسري بعيدا. وهناك، في ذلك المنفى البعيد، كان أول شيء فعله الشاعر اوفيديوس هو الانتقام من قيصر بان تبنّى كلباً أسماه قيصر.
عداء السلطة لمبدأ حرية الفن والابداع، ورفض الفن الخضوع للسلطة ، لعبة الانسان في كل العصور. ولاأعتقد أنهما سيتصالحان، ويقبلان التعايش بسلام، في رقعة واحدة، لتعارض المصالح، وتضارب الأهداف.
ويمكن تشبيه العلاقة بين الاثنين بضفتي نهر متوازيتين ومتقابلتين. الانحياز لضفة السلطة يعني الاصطفاف في الضفة المعادية للحرية. والانحياز للفن يعني القبول بالعيش غريباً ومنفياً.
ورغم مرور الزمن، وتعاقب القرون، لم يتمكن الانسان، حتى الآن، من تشييد جسر يتيح له التنقل بين ضفتي النهر المتقابلتين من دون ريب وشكوك في نوايا السلطة ، أو من دون خوف بخسارة حريته.
الوسوممدنٌ وأسوار
شاهد أيضاً
يعطي بنته ويزيد عصيدة
جمعة بوكليب زايد ناقص لم يكن في حسباني، يوماً ما، أنني سأتحوّل إلى كاتب مقالة …