منصة الصباح

العشّار ( أساطيل الميل الواحد )

العشّار
( أساطيل الميل الواحد )
______

محمد الهادي الجزيري

يجابهك في أوّل المدخل لهذا المتن السرديّ، نصّ بعنوان ” كتاب أيامي ” عمد إليه الأستاذ الكاتب محمد خضيّر لشرح ما سيأتي بعده من نصوص قصصية ..

فهذا الكتاب عبارة عن أرشيف لما حدث لحيّ ( العشّار ) بالبصرة ..، كتبه القاصّ تخليدا لذاكرة مهدّدة بالنسيان ..

فهو بكلماته المضيئة يحنّط كلّ ما يخطر على باله ، ويحفظ كلّ ما تلتقطه حوّاسه ..من عربة بائع الشاي ..إلى مقهى البنّائين ..وله في كلّ قصّة مذهب ورفقة ومغزى ..

” خمسون قطعة / قصّة / أسطورة مساوية لنصف قرن مضى، أو ثمانون بعمر راويها، أو مئة في سجّل الأحياء المعمرين : هو العدد المطلوب لتخليد لأحياء المربّع الشعبي، في عصر ما عاد يأبه للأرقام أو لمرور السفن في الأنهار، ما يبقى في الحكاية أثر ممهور على جبهة لا تكفّ عن ملامسة الشمس والرياح الساخنة ..”

يبدأ القصّ بعراك الديكة بين ( زوج ديك الأنجليزي وديك البجاري ) وكيف انتهى القتال بينهما بعودة كلّ إلى مكانه

..رجوع الأولى إلى قنّها وانكفاء الثاني شبه ميّت إلى بقعته في دكّان الخردوات ، ثمّ يمرّ القاصّ إلى حكاية أخرى وأخرى بسلاسة وحياكة سردية رائعة فنقرأ ” حارة السكاكيني ” فيفوح بخار الحبر الزيت مع عطر الورق الرطب والأصماغ ، ويمضي بنا القاصّ محمد خضيّر إلى ” صانع المفاتيح ” لنخرج منها بعديد الأفكار الجيّدة ..ومنها هذه الجملة الراسخة القويّة :

” لا مكان لحفظ سرّ ما ، كلّنا مقفل على شيء وحيد لا يريد إشاعته ، وهذا ما لا يدركه الصنّاع المزيّفون ، يستنسخون المفاتيح جهلا بحقيقة السرّ ”

ويتواصل القصّ إلى أن يُختم هذا الفصل ب ” جدار ورديّ ” وهو حائط ملطّخ بهلوسات فئات شبابية مختلفة، وصف الكاتب تشرّدها في هامش المعنى حين قال : ” تفصيلة من جدار الجرافيتيات الصبيانيّة الساخطة ، تركّب تخطيطا لشعارات سياسية ناضجة على خلفية إحساس جماعي ، هيجان روحي بلا مأوى ولا هدف ” ، ليختم الفصل والنصّ باعتراف ضمني ويكتب :” وأهتف متعجبا : يا للوقت كم يعدو مثل أرنب ، كأنّي من رسم هذا الجزء من الجدار، ولطّخت لونه الورديّ بتصويرة اختزنتها من أيّام سالفة ، عاصفة ”

قسّم الكاتب مجموعته على قسمين، الأوّل ورد تحت أسماء ، أمّا الثاني فجاء تحت اسم طوبوغرافيّات ..

وسنقتطف من هذا الأخير فقرات دالّة على أنّ القاصّ يحنّط ما يمكن لحواسه أن تلتقطه ويحاول تخليد الأماكن واللحظات التي يمرّ بها ..

في القسم الثاني من مجموعة ” العشّار ” لا يكفّ الأستاذ محمد خضيّر عن فعلته الأولى ألا وهي محاولة تخليد كلّ ما يقع في الربّع الذي اختاره ..وإن أسغب على قصصه هذه المرّة غرائبية وعجائبية.. ، فمثلا نأخذ ” فندق الأرامل ” قصة فيها رعب وتشويق ودخول لمتاهات : ” من يدسّ السمّ لأحدهم ..

، أطفال يدفنون القتلى ..أرامل خبيرات في الخداع حتّى الموت ..” ، وتختتم القصة بتعجّب ( فارو ) المشارك في الجريمة من قدرة القاتلة على الإجهاز عليه بكلّ برودة أعصاب :

” لا أصدّق أنّي سأرث ممتلكات الرجل الفيل ، خدمته بإخلاص ، ولم يراودني أنّي سأخدعه يوما ما ، كيف تغلّبتِ عليه ”

هذه إطلالة سريعة على مجموعة قيّمة فيها الكثير من الحبكة ..

حاول خلالها قنص لحظات وتخليد أماكن مرّ بها ..واحتك بناسها وتابع أنشطتها العديدة …، وإنّي لسعيد بمعرفتي الأستاذ محمد خضيّر ..فمنه أشمّ عبق العراق العظيم ..

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …