منصة الصباح

مجتمع الثلج: صراع بشري وفلسلفي يعيد كارثة “الأنديز” للواجهة

في روايته “كافكا على الشاطيء” يُحدّثنا “هاروكي موراكامي، “عليك أن تنجو من وسط تلك العاصفة الباطشة الميتافيزيقية الرمزية، بغض النظر عن مدى ميتافيزيقيتها أو رمزيتها. الخطأ ممنوع: ستقطع العاصفة اللحم كآلاف الأنصال. و سينزف الناس هناك، و ستنزف أنت أيضاً، ستنزفون جميعاً دماً أحمر حاراً. و ستتلقف أنت هذا الدم بيديك، دمك، و دم الآخرين.


و لحظة انتهاء العاصفة، لن تتذكر كيف نجوت منها، لن تتذكر كيف تدبرت أمرك لتنجو، و لن تدرك هل انتهت العاصفة أم لا. ستكون متيقناً من أمر واحد فقط: حين تخرج من العاصفة، لن تكون الشخص نفسه الذي دخلها، و لهذا السبب وحده، كانت العاصفة”.

هذه المُقدّمة، كانت حاضرة معي لحظة مشاهدتي لفيلم Society of the Snow “مجتمع الثلج” والذي أعاد القصة المأساوية للطائرة التي تحطمت وكان على متنها 45 مسافرًا من الأوروغواي إلى تشيلي، بينهم أعضاء فريق أوروغوياني لكرة القدم “الرغبي”.

بدأ الفيلم، بسرد القصة عبر الرواي: “في 13 أكتوبر 1972، تحطمت طائرة أوروغويانية في جبال الأنديز، كنا 40 راكبًا وخمسة من أفراد الطاقم على متنها، يعتبرها البعض مأساة، وآخرون يجدونها أعجوبة، ما الذي حدث فعلاً؟ كيف تتصرف حين يتخلى عنك العالم؟..”. رافقت الرواي مشاهد الجبال التي يغطيها الثلج الذي يحجب الرؤية عن أي شيء يتحرك، وتضع الإنسان في رِهانات ومراجعات لكل أفكاره نظرته للحياة بشكلها الطبيعيّ أو العكس. كل شيء يتحطم مع تحطم الطائرة، كل شيء، الأحلام، الذكريات، الواقع.

مجتمع الثلج، صوّر الحالة الإنسانية الحقيقية في أسوأ مراحلها، جعلها في مواجهة مباشرة مع القناعات البشرية، وكيف يُحطّم الإنسان كل ما آمن به، أو ما يدعو له، لأجل البقاء لأجل أن لا يموت وحيدًا.
ولكن كان هذا تدريجيًا، عبر مجموعة من النقاشات بين الناجين، أولاً حول الطعام القليل، الموتى، الجرحى، البحث عن الحطام المتبقي من الطائرة، والعمل على إيجاد أي مخرج من وسط العواصف الثلجية والمناخ البارد جدًا.

يروي بطل الفيلم، الفنان إنزو فوغرينسيتش، الذي لعِب دور “نوما توركاتي”، كيف بدأت فكرة أكل لحوم البشر الذين ماتوا، وبعضهم من الأصدقاء الفريق، بطريقة

فلسفية، وتغيير القناعات التي فرضت نفسها بفِعل الحادثة، ومنها بالأسئلة، هل توجد عقوبة إن أكلنا لحوم من ماتوا؟ وتتعالى الأصوات داخل حطام الطائرة، ثم يصرّ آخر على أن الإنسان لن يقوى على الاستمرار إن لم يُغذّي جسده، وسيفقد حياته إن لم يأكل أي شيء.

وبعد هذه النقاشات، بدأت الأصوات تتعالى بأن أكل لحوم البشر، الحل الأمثل للبقاء. يبقى “نوما توركاتي”، الأكثر معارضة لهذا الفِعل، محاولاً منع أصدقائه من ارتكاب فِعل غير أخلاقي، لكنه يفشل في نهاية المطاف. وتظهر نظرته الخائفة عبر زجاج الطائرة، إلى أصدقائه وهم يقطعون لحوم من ماتوا ويأكلونها.

صنع الفيلم تكريمًا خاصًا لكل ضحايا الطائرة، عبر إدارج أسماءهم، في مشاهد متسلسلة، وفي ذات الوقت، نجح في إحداث صدمة عبر إبراز النفس البشرية التي على استعداد تام للتخلي عن ما آمنت بهِ، إلى درجة أن يأكل أحدهم لحم من كان معه، قبلها بأيام. في مشاهد مرعبة فلسفية، تُعيد للإنسان بدائيته، ماذا يحدث للعقل البشري حين يكتشف أن طوق النجاة لن يأتي؟ أي انتظار لا شيء، انتظار المجهول، أو بمعنى أوضح، وهل يجرأ هذا العقل البشري على خلق أوهام قادرة على أن تجعله صامدًا لأطول وقت ممكن؟ لكلِ الناجين قصة منفصلة عن الآخرين، ودوافع متنوعة للمقاومة، لأجل الأبناء، الآباء والأمهات، لأجل الحياة التي تنتظر هؤلاء الشباب العاشق للحياة بكل ألوانها. كل شيء مرتبط بأهمية المقاومة لأجل البقاء لأطول فترة ممكنة على قيد الحياة.

وتجلّى هذا في لحظة استسلام “نوما توركاتي” للجوع، وأكل قطعة لحم بشرية، بعد أن أصيبت قدمه وأصبح في مكانه لا يتحرك، وهو يروي: “لأول مرة أفكر في الاحتمال الأكثر واقعية، وهو عدم عودتي إلى الديار” مؤكدًا بذلك، أن النفس البشرية ليست كما كان يعتقد. هو الذي كان يعارض فكرة أكل لحوم البشر، يوصي أصدقائه بأن لهم الحرية في استخدام جسده للطعام إذا أرادوا.

بعد 61 يوم من المعاناة والعذاب، قرّر ثلاثة شباب من الفريق، الانطلاق بعيدًا عن هيكل الطائرة، والبحث عن أي وسائل للنجاة، في رحلة شاقة ومغامرة قد تنهي حياتهم بسبب تسلّقهم الجبال المغطاة بالثلوج والمشي لمسافات طويلة.

وفي 22 ديسمبر، تمكنت طائرتا هليكوبتر تابعة لجيش تشيلي، من تحديد المكان والوصول، وتم إنقاذ من تبقّى من الناجين وعددهم 16 شخصًا، بعد 72 يوما على الحادثة، وكل هذا بعد نجاح الشباب الثلاثة في إرسال ورقة عبر أحد الذين عثر عليهم، إلى الجيش التشيلي، تُفيد بأن هناك ناجين من الحادثة.

لم يعتمد الفيلم، النهايات المتوقعة، بل تعامل مع الحادثة، بطريقة توثيقية وإنسانية بروحٍ فلسفية. كانت مشاهد الذين نجوا وهم مع بعضهم البعض، محزنة ومرعبة، وهم يتذكرون من كانوا معهم، والأسوأ من كل هذا، هي الأسئلة التي لا إجابات لها بالنسبة لمن عادوا، من الذي نجى من الكارثة، من ماتوا أم من بقوا أحياء وعادوا إلى حياتهم؟ لماذا حدث كل هذا؟ ما المغزى من كل هذه الكارثة؟. هذه الأسئلة كانت أسئلة الناجين، وهي ذات الأسئلة التي أجاب عليها موركامي في روايته، حين حاول تفسيرها بهذا الشكل: “لحظة انتهاء العاصفة، لن تتذكر كيف نجوت منها، لن تتذكر كيف تدبرت أمرك لتنجو، و لن تدرك هل انتهت العاصفة أم لا. ستكون متيقناً من أمر واحد فقط: حين تخرج من العاصفة، لن تكون الشخص نفسه الذي دخلها، و لهذا السبب وحده، كانت العاصفة”.

الفيلم مقتبس من كتاب يحمل العنوان نفسه، للكاتب “بابلو فيرسي” نُشر في العام 2009، وهو يضم شهادات للناجين وعددهم 16. وقد تم ترشيح الفيلم لأفضل “فيلم بلغة أجنبية” ضمن جوائز “غولدن غلوب” ويُمثّل إسبانيا بشكلٍ رسميّ في جوائز الأوسكار.

شاهد أيضاً

نقابة أعضاء هيئة التدريس الجامعي: سيتم الشروع في رسائل الدعم المالي

أعلنت النقابة العامة لأعضاء هيئة التدريس الجامعي بليبيا على أنه سيتم الشروع في رسائل الدعم …