منصة الصباح

ما نَعْرفُه و نَنْكُره   

زايد…ناقص

جمعة بوكليب

 

مشكلةُ البشر في علاقتهم غير الودّية مع طائرُ الغراب  هي أنهم لم يغفروا له واقعة أنّه كان شاهد عيان لأوّل جريمة قتل، حدثت في العالم الأرضي البشري.  الغرابُ ليس مسؤولاً عن قتل قابيل لأخيه هابيل، ولا مشاركاً في الجريمة، أو حتى على علم بها. الأسطورة الدينية تؤكد، أنّه هو من كشف الجريمة، التي حاول قابيل إخفائها. لكنّنا، معشر البشر في مختلف بقاع الأرض، لم نغفر للغراب ذلك الموقف. هل لأنّه يذكّرنا دوماً بالشرّ المبذور في طينتنا البشرية ولازال؟ ربما لذلك اتفقنا على معاداة ذلك الطائر الأسود اللون، والتطيّر من رؤيته. الغريب، أننا لا نحمل نفس الكراهية ضد قابيل، من قتل أخاه من دون جريرة، ولا نتطيّر تشاؤماً من ذكر اسمه.

نحنُ أسرى تصوراتنا المسبقة،  وما رضعناه من  ثقافة دينية وإجتماعية منذ المهد، رغم ما بيننا من اختلافات. إذ كيف يحدث أن يعامل ذلك الطائر البريء نفس المعاملة في معظم ثقافات الأرض؟ وبالتأكيد، العداءُ ليس ناجماً عن كون الغراب يحب أكل لحم الجيف، ولا لسواد لونه، أو أن لحمه لا يؤكل. هناك أنواعٌ كثيرة من الطيور تحبُّ أكل لحم الجيف، وأخرى بلون السواد، ولا تؤكل. فلماذا لا تعامل مثله؟ وما ذنب الغراب كي نحمل له في قلوبنا عبر الأجيال تلك المشاعر غير الودّية مطلقاً، ولا نعامله كغيره من أنواع الطيور؟  وهل من الممكن القول إن كل تلك الأسباب المذكورة أعلاه  تلتقي و تجعلنا نتفق على كراهية الغراب، ونتطيّر من رؤيته في الصحو و في المنام؟

أنا شخصياً أرى أن وجوده، صدفة، في تلك البقعة واللحظة، حيث ارتكبت الجريمة الأولى، هي من جعلته يدفع ثمناً باهظاً على مر العصور، من كل بني البشر.

ثقافة التطيّر من الغراب، والتشاؤم من رؤيته عابرة للحدود والثقافات واللغات، وليس حكراً على ثقافة معيّنة أو ديانة بعينها.

وأذكر أنني حين نفيتُ نفسي لاجئاً في بَرّ الانكليز، وصلتُ مُحمّلاً بكل ما أورثني أهلي من ثقافة، ومن ضمنها التطيّر والتشاؤم من رؤية الغراب. لكنّي بعد قضاء فترة قصيرة في منفاي، لم أعد مبال بالغربان، بعد أن تكشف لي أن عددها في مكان إقامتي الجديد يفوق عدد البشر من حولي. وصرتُ كلما التقيت غراباً في طريقي، في أي وقت من أوقات النهار، لا أُعيره اهتماماً. ولو أنني بقيت على حالتي الأولى من التطيّر، لما خرجتُ من بيتي، ولبقيتُ حبيس الجدران.

نحنُ، في علاقتنا غير الودّية، بل العدائية، مع طائر الغراب، وما نحمله له في قلوبنا من كراهية تراكمت عبر العصور، ننسى حقيقة تاريخية وهي أن الغراب طائر ذكي جداً، كما أبانت دراسات علمية مؤخراً. وهو يستحق تقديرنا واحترامنا، ليس على حُبّه لأكل لحم الجيف، فذلك أمرٌ مقزز للنفس الانسانية الكريمة، ولكن عن جدارته في تحدي أنياب الزمن، وعوارض الزمان وكراهية البشر له وشدة عدائهم له، وقدرته على البقاء والاستمرار، طوال آلاف السنين، في حين أن كائنات ضخمة وهائلة الحجم، مثل الديناصورات فشلت في ذلك، و أنقرضت.

وهناك أمرٌ آخر، ربما  أن تلك القدرة على البقاء والاستمرار في  الغراب، وغم ما شهدته الدنيا من تقلبات بيئية وطبيعية..الخ هي مثابرة منه، لتذكيرنا نحن البشر بجدوى إعادة التفكير مجدداً فيما نحمله له من مشاعر عدائية، من دون ذنب اقترفه، سوى أن وجوده، ورؤيته، يذكرنا دوماً بتلك الجريمة الأولى.

شاهد أيضاً

زيادة الوزن وطريق الموت

مع شاهي العصر: توجد دولة في جنوب أمريكا اسمها بوليڤيا بها شارع يعد أخطر شارع …