زايد..ناقص
جمعة بوكليب
حين كنتُ صغيراً، تعلقت بالسينما، وشغفتُ بكل ما تنتجه استوديهات العالم من أشرطة حد الادمان. والشغف بالسينما عادة، وفي مرحلة عمرية مبكرة، لا ينتهي عند الادمان على مشاهدة الافلام، بل يتجاوزها إلى أبعد من ذلك بمسافات، بأن يتمنى صبي مثلي أن يكون جزءاً من ذلك العالم المدهش، وبأن يحلم بالانتماء إليه، ويحظى بشرف أن يكون عضواً في أسرته الكبيرة. تحقيق ذلك يكون بأن أصير ممثلاً سينمائياً عالمياً مشهوراً. لكن حظوظي في التحوّل إلى ممثل سينمائي، لحسن حظ السينما وروادها، سرعان ما وصلت إلى طريق مسدود وتوقفت. ورفعتُ أنا بطواعية راية بيضاء معلناً التسليم، والعودة خائباً من حيث أتيت. فقد تبيّن لي أن الملاك الذي يبعثه الله لتوزيع حصص المواهب على المواليد الجدد نسي، في يوم مولدي، أن يمر بي، وتخطاني سريعاً إلى غيري. ذلك الخطأ الملائكي غير المقصود طبعاً، حرمني من نصيبي من موهبة التمثيل. وبذلك، صرت والتمثيل على خطين متوازيين لا يلتقيان أبداً. وأدركت، بعد وقت قصير لحسن الحظ، أنه من الأفضل لي الاكتفاء بمشاهدة الأفلام، والتمتع بها.
وحين كبرتُ في العمر قليلاً، وبدأت علاقتي بالقراءة تتجاوز مجلات وكتب الأطفال، واكتشفتُ طريقي إلى عالم مجلات وكتب الكبار، وخاصة المجلات المصرية المهتمة بالفن السينمائي، حرصتُ على قراءة ما يكتبه وينشره النقاد المصريون من آراء حول السينما وما ينتج ويعرض على الجمهور من أفلام. هذا الاهتمام تحوّل إلى شغف ايضاً، حتى صرت أتمنى أن أكون ناقداً سنيمائياً. والتحوّل إلى ناقد سينمائي لا يأتي من فراغ بل من دأب على قراءة الكتب المتخصصة، ومشاهدة الافلام. وبعد وقت بدأتُ تجاربي الأولى في الكتابة النقدية عن السينما. كنتُ لدى عودتي إلى البيت، عقب مشاهدة فيلم سينمائي، أحاول كتابة تعليق حوله. لكن الله القدير تدخل في الأمر بسرعة، بعد أن تبيّن لي، عقب فترة زمنية قصيرة، أن الوصول إلى القمر سباحةً ربما يكون أقرب وأسهل إلىَّ منالاً من أن أكون ناقداً سينمائياً. ولذلك، أكتفيت من الأمر بمتابعة ارضاء ادماني للسينما وقراءة ما ينشره النقاد من آراء. الفرق الوحيد هو أنني صرت لا أذهب إلى مشاهدة شريط سينمائي، قبل أن اقرأ بأهتمام ما ينشر حوله من آراء.
وفي بداية فترة مرحلة المراهقة، مثل ملايين غيري من المراهقين والمراهقات، شغفتُ بالغناء، وتعلقت بالمغنين والمغنيات من الليبيين والعرب، وحفظت كلمات أغانيهم وصدحت عاليا بألحانهم، حتى صرت أرددها في نومي ويقظتي كمهووس. وتمنّيت على الله أن يجعلني مغنّياً، أقف على خشبات المسارح في مختلف بقاع الدنيا وبلدانها، وخلفي يجلس موسيقيون بآلاتهم الوترية والنحاسية، وأمامي تلاحقني باعجاب عيون حمهور كبير، يستمعون إلى ما أشنف به أسماعهم من أغانٍ وألحان، ويتابع المعجبون من الجنسين أخباري، ويتغنون بما أصدح به من أغان عبر الاذاعات المسموعة والمرئية. لكن الله القدير كان يدرك مكامن ضعفي، ولذلك كان رحيماً بي، فانتشلني سريعاً من بحيرة أوهامي تلك، وبذلك أنقذني من الموت دَهساً تحت أقدام المعجبين والمعجبات، ونجوت بجلدي، كما نجا الناسُ من محنة الاستماع إلى صوتي. إلا أن تلك النهاية غير السعيدة لحلمي أو لأوهامي لا فرق، لم تتسبب في قطع آواصر الود والوصال بيني وبين الغناء، أو وقفت عائقا بيني وبين امتاع نفسي بغنائي سرّياً، وراء أبواب مغلقة، آوان الاستحمام، أو لدى قيادة سيارتي، أو لدى العودة إلى بيتي في آخر الليل مشياً على قدمين غير متوازنتين!