تحليل: أحلام محمد الكميشي
“الصادق” شخصية محورية في مسلسل (مستقبل زاهر) وأداها باحترافية الممثل “إبراهيم خير الله”، لكني تمنيت لو أنها كُتبت بصورة أفضل، لأن المسلسل 14 حلقة وخلال أول 10 حلقات منه كان صناع العمل وعلى رأسهم المؤلف والمخرج المبدع “نزار الحراري”
يجتهدون بهمة عالية في تقديم هذه الشخصية للمشاهد على أنها إحدى ركائز الجانب الخيّر في المجتمع، رجل طويل القامة عريض المنكبين يشرف على قطيع من الغنم هو رأس ماله ومصدر دخله أرمل توفيت زوجته فترك البيت الذي حوى ذكرياته معها وظل وفيًا لها طول الوقت ويرفض تجربة حظه مجددا، يحاول أن يكون حمامة سلام بين شقيقيه “حسن” المعلم المثالي و”بلقاسم” الطيب الذي يعاني من تسلط زوجته “خيرية” شقيقة الرجل الطيب والشهم “فوزي”.
قال صاحب العمل أنه ألبس “الصادق” الشال الفلسطيني كرمز للكفاح والدفاع عن الأرض والتمسك بها وعدم مغادرتها، ومع أني رأيت في هذا نوعًا من الاغتراب الثقافي لأنه يحق لك الاستيراد عندما لا يكون لديك شيء ونحن لدينا تاريخ من الكفاح ضد الاحتلال يسبق المحنة الفلسطينية بسنوات
وعلى سبيل المثال فقد استشهد “عمر المختار” أحد أهم رموز الجهاد الليبي ضد الاستعمار الإيطالي في 1931م بينما بدأت ثورة الريف الفلسطيني في 1936م أي بعد ذلك بنحو 5 سنوات، وكان أفضل لو أن استعارة الشال الفلسطيني ك(كراكتر) للشخصية قيل عنه أنه نوع من التحية لكفاح الشعب الفلسطيني الشقيق خاصة في ظل الظروف التي يتعرض لها حاليًا وما تشهده القضية الفلسطينية من تصعيد وصل ساحات القضاء الدولي، تحية من شعب عرف الكفاح لشقيقه دعمًا له في هذا الوقت وليس رمزًا للدفاع عن الأرض وعدم التخلي عنها فقط وكأنه صار ختم جودة خاص بالفلسطينيين فقط، فما من شعب تخلى عن أرضه أو توقف عن الكفاح لطرد الغزاة.
المهم أن شخصية “الصادق” كبطل شعبي ظلت تكبر على الشاشة وتتجذر طوال 10 حلقات، ثم ماذا؟ قُتل في الحلقة (11) بهدوء وخسر صناع العمل وخسر المشاهد كل العظمة في هذه الشخصية لأن مشهد النهاية كان حريًا به أن يُكتب ويُنفذ بطريقة مختلفة تحافظ على الزخم الذي كان طوال الحلقات السابقة.
ملاحظاتي على الشخصية:
1. التدخين وتقريبًا كما في “السيرة العامرية” كان سمة بارزة للعمل بصورة مبالغ فيها.
2. تم توظيف تدخين “الصادق” مرتين بصورة صحيحة لإيصال رسالة احتقار “الصادق” للآخر، مرة عندما نفث دخانه خلف “خيرية” وهي تغادر بعد وصلة ردح غصبًا عن زوجها أمام بيت “حسن”، والأخرى في مشهد نهاية “الصادق” عندما نفث دخانه في وجه “رجب”.
3. وسطية “الصادق” وعدله في التعامل مع أخويه، وحمله همَّ “بلقاسم” الذي لم يتمكن من التغلب على سطوة زوجته وجبروتها، وعرضه حصته من الميراث ليأخذها شقيقه إنهاءً للخلاف، منح الشخصية بُعدًا اجتماعيًا إيجابيًا وقدرة على التضحية والإيثار.
4. امتلاكه للسلاح المرخص واخراجه من تحت التراب فقد دعت الحاجة لاستخدامه، ووقوفه مع أسرة أخيه “حسن” وتهريبهم لبيته خارج المزرعة واهتمامه بشؤونهم من طعام ودواء وغيرها، ومبيته خارج البيت ممتشقًا سلاحه، منح الشخصية بعدًا أخلاقيًا وانسانيًا وبطوليًا.
5. عمله في كسب الغنم، منحه بعد متعلق بالحكمة والهدوء والصلابة، واقتداءً بكثير من الأنبياء، ما يعطي للشخصية بُعدًا روحيًا.
6. مسؤولية “الصادق” إلى حد ما عما حصل لابن شقيقه “حامد” فعندما رفض والده حتى بالرغم من إلحاح الأم على تسليمه السيارة لدرجة احجام الأم عن مزيد التدخل والاستجابة لإلحاح ابنها بإعادة مناقشة والده في الأمر، قام “العم بتقديم سيارته لابن أخيه مع عبارات مشجعة بشأن أخذ حريته المطلقة حتى لو أتلفها، وهذا أيضًا شاهدناه عندما أخذ “حسن” هاتفه من “زاهر” فتدخل العم وأعاده إليه فورًا ومن دون طلب من “زاهر” أصلا، هذا النوع من الأقارب موجود في كل أسرة تقريبًا وهو يتصرف بحسن نية كنوع من التنفيس عن الصغار ودعمهم في مواجهة (اللاءات) المتكررة بسبب وبدون سبب من الوالدين، وهذه الرسائل يقدمها العمل بحرفية عالية تدفع المشاهد لتتبع أثر تدخله أحيانًا لمساعدة أطفال العائلة فيما رفضه الأبوان إّا يمكن لها أن تغير مستقبل العائلة كليًا نحو الأسوأ حتى بالرغم من حسن النوايا.
في ضوء كل ما سبق من مواصفات بدنية وأخلاقية للشخصية، رأينا فيها المواطن والشعب وأولاد البلد الحقيقيين الصادقين والأقوياء في ذواتهم والمدافعين عن الحق بشجاعة مع حكمة ورجاحة عقل.
كيف تصورنا كمشاهدين تطور الشخصية:
1. أن “الصادق” سيتصدى لعائلة الروافع.
2. سيتمكن من حل المشكلة بطريقة أو بأخرى دون أن تنتهي بالقتل.
3. في حال تم قتل شقيقه وابنه سيأخذ بالثأر.
4. سيربي “زاهر” وربما تزوج “سعدة” المرأة الطيبة المكافحة وساعد الأسرة على تجاوز المحنة، وسيسعى لأن يكون “زاهر” قويًا خلوقًا وبإمكانه صنع مستقبل أفضل ليس فيه روافع.
لكن مشهد نهاية “الصادق” كان محبطًا ومخيبًا للآمال.. لماذا:
1. جاء سريعًا أي قبل الحلقة الأخيرة.
2. تم القتل بعد نطقه بعبارة (الحامي هو الله).
3. قتله “رجب” بسهولة وبطلقة واحدة من الأمام ومن مسافة بسيطة.
4. من لقطة بعيدة شاهدنا “الصادق” يسقط على الأرض كفردة دولاب دفعة واحدة وكأنه جسد بلا مفاصل ومات فورًا دون حراك.
5. كل القتلى من مسافات قريبة ما يعزز فرضية خروج الطلقة من الجسد من الخلف محدثة جرحًا قطعيًا قد يسبب في تفجير الدماغ ناهيك عن تناثر الدماء على الحوائط وفي المكان، لكن هذا لم نشاهده.
6. تم سحب الجثث وتكويمها على بعضها لكن دون أثر للدماء خلال جر الجثث، ثم تم إشعال النار فيها وتم وضع بطاطين جديدة بعد إطفاء النار، لكن ظلت هيئة الجثث المحترقة تقريبًا بنفس المقاسات.
كيف أتصور أنا المشهد:
قوة البطل في حياته وفي أنه لا يموت بسهولة، لأن تطور الشخصية عبر الحلقات فيه مضمون يسعى لإيصال رسالة تربط المشاهد بالعدل والصدق وتعطيه الأمل في أن الطغاة مهما تغولوا فلابد للشعوب أن تنتصر، والأبطال لا يموتون (فطيس).
– كان الأفضل أن يقول “الصادق” ردًا على كلام “رجب”: (الحامي هو الله، وعمري مش بيدك وساعتي مكتوبة من عند ربي لو هو قضى أنها توا فالأمر بيده هو)، هذه العبارة تعطي بعد أعمق وتجعل المشاهد يفهم أن المليشياوي هو فقط أداة لتنفيذ أمر الله وسبب فقط للموت، وتتمة العبارة أقوى من التوقف عند ما قاله “الصادق” في المسلسل، وهذه الفكرة استعرتها من صديقتي “نعيمة الطاهر” خلال حوارنا بعد استئذانها.
– في كل مشاهد المواجهة في الأعمال الدرامية على خلافها بين شخصية تمثل الخير وأخرى تمثل الشر كما حدث بين “رجب” و”الصادق”، كان النص والإخراج ينتصران للخير، فالشر مسلح والخير أعزل، لكنه يتمكن من الإطاحة بسلاح الشرير، وهذا يعطي للمشاهد معلومة أن الشر يستنصر بالتمترس خلف سلاحه ومتى طار السلاح وصار كلاهما أعزل فالغلبة للخير الذي سينتصر في العراك دومًا وإن طال النزال.
– هنا كان يفترض في “الصادق” أنه ضرب “رجب” وأطار سلاحه واشتبك معه وأسقطه أرضًا، وبعد عراك تكون فيه الغلبة للخير “الصادق” وسط صراخ الشر “رجب” مع حرص الكاميرا على لقطات قريبة توضح لنا قيام “الصادق” بتمريغ وجه “رجب” في التراب” حتى أن أثر التراب سيظل على شعره حتى النهاية، وعلى إبراز ملامح الوجه لكل منهما حيث سيفلح كلاهما -بتمكنهما من الأداء الرائع كما شاهدناهما طوال المسلسل- في إبراز ملامح وجه تقوي موقف الخير وتضعف موقف الشر أمام المشاهد، ويمكن تبادل عبارات بين “الصادق” و”رجب:
الصادق: وريني توا بدون سلاحكم راكم ما تسووا شي.
رجب: احنا الروافع سيادكم يا (كلاب).. طبعًا تكررت هذه الكلمة من الروافع كثيرًا ولا بأس فهي تمثل ثقافتهم هم وأمثالهم.
الصادق: تي والله انتم أضعف من خْلَق ربي.. بعيد على حديدكم وسلاحكم ما تسووا شي في مجمع التريس.
طبعا مثل هذه العبارات ستجد صداها عند كل مواطن تعرض لظلم من أمثال “رجب” يومًا ما وسيجد فيها تضميدًا لجراح نفسه.. وخلال الكلام يجلس “الصادق” فوق صدر “رجب” كرمزية للتفوق والغلبة، وبعد عراك وخلال قيام “الصادق” بخنق “رجب” بيديه” يبدأ “رجب” في استجداء حياته.
رجب: خلاص اطلقني وخوذ اللي تبيه.. بالله عليك.
ويمكن تكرار نفس العبارات التي قالها “جواد” قبل أن يقتله “رجب” فالدنيا تدور، وهدف المسلسل أصلا أن يبين ضعف الشر في اللحظات الحرجة سواء كان في مواجهة الشر كما كان بين “رجب” و”جواد” أو في مواجهة الخير كما كان بين “رجب” و”الصادق”.
وفي اللحظة الحاسمة وبعد أن ينقض “الصادق” على عنق “رجب” وهو يقول:
لازم نخلص الناس من شرك، انت نبتة شريرة لازم نقطعها، ومادام طحت في ايدي مش طالقك.
ينتبه رفاق “رجب” الذين كانوا خلال الدقائق السابقة يبحثون عن بقية العائلة ويهرعون لإنقاذ سيدهم، ومثل “الصادق” لا يجوز أن يقتل إلا برصاص في ظهره وبمخزن كامل أو مخازن من بنادق مجموعة من مسافة ليست قريبة وليس بطلقة واحدة أمامية من مسافة قريبة.
كان يجب أن يموت البطل بطلا في الحلقة 11 بعد 10 حلقات من البطولة ليبقى الرمز متكاملا في ذهن المتلقي.. وكان يجب أن يطول قليلًا مشهد موته وإبطاء اللقطة لإبراز ملامح الوجه، فيما يركض “رجب” بعيدًا لاسترجاع سلاحه وبدوره يرمي طلقات على “الصادق” وقد تخلى عن الاستجداء وعاد للقوة المصطنعة بدعم السلاح والرفاق، تبرزها صيحاته المعهودة.
كان يجب أن يقول الصادق عبارات قبل موته من نوع:
– ما تسوا شي مع التريس.. تتحامى في جماعتك.. حتى لو متت أنا حيجيكم منو ينقذ البلاد منكم، جبنااء جبنااء..
هنا يمكن أن تسكته طلقة أخيرة من “رجب”.
خسارة أن تربي شخصية بطل لها رمزية ورسالة قوية للمشاهد ثم لا تستثمر هذا في مشهدية موته، هذا ان كان لزامًا من الأصل أن تتركه يموت.
وكان يمكن استثمار لحظة انقاذ “رجب” من الموت بإبراز مساحة لشخصية “فاروق” التي كانت أقل من إمكانيات الفنان المتمكن “مكرم اليسير” لأن لديه إمكانيات كان حريًا بالمسلسل منحه مساحات أكبر لاستثمارها، المهم بابراز مقدرة “فاروق” على إنقاذ “رجب” من موت محقق لدرجة أن يتخلى “رجب” عن جبروته برهة ويعانق “فاروق” ويقول له:
– أنقذت حياتي.. صحيت ياتريس يابو رفيق.
لأن مشهد اختلال توازن “رجب” وفقده الثقة في رفاقه جاء بدون (تفريش) صحيح لتطور في الأحداث في الحلقة الأخيرة، وكان الأفضل استثمار إبراز انقاذ فاروق له في جعله هو نفسه يقدم بتحريض من “الدكتور” على قتل “رجب” بعد مشهد يقوم فيه “رجب” بإهانة “فاروق” متناسيًا فضله عليه في إنقاذ حياته، فيوافق على التعاون مع الدكتور، وربما إضافة أسباب أخرى كانتزاع “رجب” حبيبة فاروق منه بالمسارعة لخطبتها، فالشر يجب أن يكون كاملا وفي كل الاتجاهات، ولو لاحظنا أن “فاروق” كان شخصية لها بعد إنساني في مشهد إنقاذه لـ”سعدة” وابنها، وتهريبهم، ما يعني أن هناك بين الأشرار من أجبرته الظروف على الانضمام للفوضى لكنه على استعداد عندما تتغير الظروف للتخلي عنها.
وفي مشهد يقوم فيه “فاروق” بالتسلل لحجرة “رجب” لقتله، فينتبه “رجب” ويبادره بطلقة من مسافة قريبة، هنا يكون الأمر متناسقًا مع طبيعة الموقف، وبموت “فاروق” يفقد “رجب” الثقة فعلا في اتباعه، فهذا الذي أنقذه ذات يوم يسعى للغدر به وقتله، وقبل أن يموت يعترف له باتفاقه مع الدكتور، سيكون هذا تطوير انسيابي صادق للأحداث وليس كما شاهدنا.
عندما ذكّر “رافع” زوجته بسرقتها لذهب والدتها وقتلها والده، شاهدنا لقطة مسترجعة في ذهنها للأحداث (فلاش باك)، لماذا لم نشاهد مثلها لتبرير قيام “فاروق” بإنقاذ “سعدة” بجعله يتذكر أنه وأمه ذات يوم كانا في نفس الموقف لكنها قُتلت وعاش هو حياة صعبة أوصلته لما هو فيه؟ لذلك ترك “سعدة” و”زاهر” كي يكون نسخة أفضل منه، وهذا سيعيد الأمل للمشاهد في أن بذرة الخير موجودة حتى عند هؤلاء الذين نشاهدهم في مواقف شريرة، أحيانًا هذه البذرة تخرج وتصنع التغيير الأفضل لدى البعض الذين دخلوا عالم الإجرام مكرهين وبسبب الظروف أو البيئة لا بسبب الأصل الفاسد.