زايد ..ناقص
جمعة بوكليب
يوم 13 فبراير 2021، أحتفل العالم بالذكرى المئوية لولادة المذياع. مائةٌ من السنين مرّوا ، واحدةٌ تلو أخرى،على ذلك اليوم الذي ظهر فيه إلى الدنيا جهازاً اسموه ” راديو” ليربط العالم من أقصاه إلى أقصاه، وليفتح نوافذ جديدة أمام الانسانية، في مسيرة تطورها التاريخي. مئوية المذياع تزامنت مع احتفال دول العالم بيوم الإذاعة العالمي.
قرنٌ بطوله وعرضه، عاش خلاله المذياع أياماً مجيدة، قبل أن تتوالى الأعوام، ويظهر التلفزيون ليزيحه من مكانته، وليتربع مكانه سيداً لأعوام أخرى طويلة، حتى يأتي دوره في الضمور والتراجع، لصالح عصر جديد، أطلقوا عليه اسم العصر الالكتروني، وليسيطر، خلال سنوات قليلة، على الموقف عالمياً، ويرفع علم سيادته على عصرنا.
العلاقة بالمذياع علاقة صوتية، بين متحدثين ومستمعين، تعتمد على حاسة السمع، يتواصلون مع بعض على أمواج أثير، من دون وجود علاقة مباشرة. ويكون من مهمة خيال المستمع أن يتخيّل وجوهاً لتلك الأصوات، لتأسيس علاقة تتجاوز العلاقة السمعية.
مدينة طرابلس، كغيرها من مدن العالم، دخلت مع المذياع في علاقة حب من أول نظرة، قبل أن تفتتح أول اذاعة بها. ولم يكن يوجد مقهى بالمدينة، إلا نادراً، من دون أن يكون حاضراً، في زاوية منه، جهاز مذياع، يؤنس رواده بما يبثّه من أغان وموسيقى وأخبار وبرامج وتمثيليات وتعليقات. استطاع المذياع لدى ظهوره أن يستحوذ على الأهتمام، وسرعان ما تحوّل إلى جسر ربط المدينة وسكانها بالعالم الخارجي. ومن خلاله، بدأت تتابع وتتعرف على ما يجري من أحداث في الدنيا. وحين دارت الأيام دورتها، لحق المذياعُ، ما لحقَ ويلحقُ غيره، من تغيّرات. فتراجعت مكانته، وصار جزءاً من ذكريات الأمس لكثير من الناس، في جُلّ مناطق العالم. لكن الذين شبّوا في زمن سيادته، وكبروا مع حكاياته وأخباره وأغانيه وأناشيده، لا يمكنهم بأي حال نسيانه.
آخر جهاز مذياع اقتنيته، جاءني هدية كريمة من صديقي القاص والكاتب المبدع يوسف الشريف، أطال الله عمره. وما حدث هو أنني خلال زيارة لطرابلس، منذ قرابة عامين أو أكثر، قمت بزيارة الأستاذ يوسف في بيته. كان الوقت مساءً صيفياً رطباً. جلسنا في (الفيرانده) على كرسيين وبيينا منضدة. كان يتربع فوقها جهاز مذياع، أثار انتباهي. خلال الحديث الذي أمتد لفترة طويلة نسبياً، أبديت أعجابي للاستاذ يوسف بحرصه على اقتناء جهاز مذياع واختياره ليكون رفيقه في جلساته البيتية. وبالطبع، لم أنس أن أبدي أعجابي بالجهاز. عقب تلك الزيارة بأسبوعين، قمتُ بزيارة أخرى إلى الاستاذ يوسف. هذه المرّة كانت الزيارة في مقر مكتبته في زقاق جانبي من شارع النصر. تعوّد الاستاذ يوسف الذهاب هناك كل يوم سبت وقضاء بعض الوقت صحبة من يحضر من أصدقاء. وحينما وصلتُ، وجدتُ في صحبته ثلاث سيدات وصبي: الباحثة والشاعرة والاستاذة في علم المكتبات الصديقة أسماء الاسطى. والشاعرة الصديقة حواء القمودي. وسيدة أخرى لا أعرفها ونسيتُ أسمها. الصبي كان نزار حفيد الأستاذ يوسف. في نهاية ذلك اللقاء، وصل مدحت نجل الاستاذ يوسف ليعود به وبنزار إلى البيت. خرجت السيدات قبلي، وتأخرت أنا في المغادرة. طلب الأستاذ يوسف من مدحت أن يأتيه بشيء ما من السيارة. فغاب مدحت دقائق قليلة، وعاد حاملاً صندوقا كرتونياً بداخله جهاز مذياع مشابه لذلك الذي رأيته في بيته. أستلم الاستاذ يوسف الصندوق وسلمني إياه وابتسامة كبيرة تملأ وجهه. شعرتُ بنوع من احراج وخجل، لكن ابتسامة الاستاذ يوسف ذهبت باحراجي، وشجعتني على قبول الهدية وشكره.