منصة الصباح
ليبيا .. مدنٌ باذخة وقرى ومناطق في الظل

ليبيا .. مدنٌ باذخة وقرى ومناطق في الظل

الصباح – تقرير: طارق بريدعة

في عمق الصحراء، وعلى سفوح الجبال، وفي المناطق الداخلية التي تعاني من قلة الخدمات، تختبئ قصة صامتة عنوانها “الهجرة إلى المدينة”.. 

كانت يوما جنة

ليست حربا، وليست أزمة لاجئين، لكنها نزيف بطيء ينقل الحياة من الضواحي والقرى والمناطق النائية إلى المدن الكبرى، التي تتضخم يومًا بعد يوم..

في ضواحي طرابلس وبنغازي وسبها، يسكن اليوم آلاف من المواطنين الذين دعتهم الحاجة، وأجبرهم غياب الخدمات في مناطقهم على ترك الأرض والذكريات..

الاهمال قتلها

قصص من الجبل: الماء مفقود.. والوقود شحيح

“في ككلة الماء الصالح للشرب ليس متاحا بشكل ميسر ، نشتريه بالصهاريج، أما التدفئة في الشتاء، فهي حلم بعيد المنال”، يقول “الحاج سالم يونس”، أحد سكان ككلة، مضيفًا: “محطات الوقود في كثير من الأحيان فارغة، وأطفالنا يمرضون من البرد، والمستشفى يفتقد للكثير من المقومات.”..

أما السيدة “ربيعة” من يفرن، فتروي بمرارة: “نمشي كيلومترات للوصول إلى مركز صحي، وإن وجدناه مفتوحًا فالدواء والطبيب حكاية اخرى.. نساؤنا يلدن في البيوت، والمسنون قد يموتون في الطريق إلى أقرب مدينة.”..

مأساة ترعرت في غياب الامكانيات

جنوبٌ منسيّ بين العقارب والموت على الطرقات

في الجنوب الليبي، حيث الشمس الحارقة والرمضاء، تتكرر المأساة في مناطق مثل أوباري، والغريفة وسبها..

يقول الشاب “مصباح” من أوباري: “لدغات العقارب قتلت أطفالاً، لأن مصل العقرب غير متوفر. نُحوَّل إلى طرابلس أو سبها، والطريق يُنهي حياة البعض قبل أن يبدأ العلاج.”..

ويضيف “علي السنوسي” من الغريفة: “لا طرق سهلة ، لا نقل متيسر على الدوام ، ولا حتى موظفين في الدوائر الرسمية، لأن الكثيرين منهم تركوا وظائفهم في الجنوب، وسكنوا طرابلس ومصراتة، ويتقاضون مرتباتهم دون أن يؤدوا عملهم.”..

نزيف بشري: من القرى إلى العشوائيات

لم تعد المدينة حلما، بل واقعًا مفروضا على من غادروا مناطقهم… الاف العائلات تعيش اليوم في مساكن مؤقتة أو بيوت بالإيجار في ضواحي المدن الكبرى. الشاب “عبد السلام” من مزدة يقول: “كنت أعمل فلاحا، واليوم أعمل حارس عمارة في طرابلس. أرضي جفت، ولا أفكر بالعودة.”..

وتؤكد الباحثة الاجتماعية “ليلى البرعصي”: “الخطورة ليست فقط في الهجرة من القرى الى المدن، بل في فقدان الهوية الزراعية والقبلية والثقافية. لم تعد القرى تنتج، ولم تعد المدن تستوعب.”..

من القرى إلى المدن: سيل لايتوقف

لم يعد مصطلح “الدواخل” دقيقًا في وصف هذه المناطق، فالمعاناة لا تقتصر على الزراعة، بل تشمل المناطق الجبلية والداخلية، والمناطق البعيدة عن المركز. ما يحدث اليوم هو نزيف يصب في المدن الرئيسية من كل المناطق..

في ككلة، إحدى القرى الجبلية ، أصبح مجرد الحصول على الماء معاناة يومية.. يقول “سالم يونس، 64 عامًا”، وهو مزارع متقاعد:

“لا ماء في الأنابيب. ننتظر صهريج المياه وكأنه شاحنة إنقاذ. نحمل البراميل ونتسابق على ما تبقّى من الحياة.

أما “فاطمة علي، أرملة” من مدينة يفرن، فتروي معاناتها مع أبسط حقوق الحياة:

“ابني أصيب بالتهاب رئوي، والمركز الصحي لا يفتح إلا بعض الايام في الأسبوع. لم أجد سيارة تنقلنا، وبقينا ننتظر الرحمة. لا أطباء، لا أدوية، حتى الإسعاف لايمكنه القدوم بحجة الطريق.”..

وتضيف: “الشتاء هنا صعب. كنا نعتمد على الكاز والنافطة، واليوم لا يوجد، ولا اي مسؤول يسأل.”..

الانتقال إلى الجنوب لا يبدد الغصّة، بل يضاعفها

في أوباري، يحكي “جمعة عمر،” وهو شاب فقد شقيقه بعد تعرضه للدغة عقرب:

“الساعة كانت الواحدة ليلاً حين لدغ العقرب أخي الصغير. لم نجد مصلًا في العيادة، استأجرنا سيارة بـ”500″ دينار، لكنه فارق الحياة في الطريق. مات لأن المركز الصحي لا يملك المصل”..

وفي الغريفة، يشير “سالم أبوحميد” إلى أزمة متكررة:

“أكثر من 70% من الموظفين في مكاتب الدولة هنا لا يأتون إلى عملهم. كلهم في طرابلس أو المدن الرئيسية.

تدهور البنية التحتية لا يقل فداحة. 

تقول “حليمة صالح”، مدرسة في إحدى ضواحي مدينة سبها:

“الطريق من مدرستي إلى المنزل يستغرق ساعة في سيارة دفع رباعي، مع أنها بالكاد تبعد 10 كيلومترات. حفَر ومطبات، بل خنادق. تلاميذي يأتون حفاة، ويمرضون، ولازلنا ننتظر إصلاح الطريق.”..

طرق ليست طرقا

ما السبيل إلى الحل؟

يرى المختصون أن كبح جماح هذه الظاهرة يتطلب خطة وطنية عاجلة، تشمل:

– خلق فرص عمل حقيقية في الريف من خلال دعم المشاريع الزراعية والصناعية.

– تحسين الخدمات الأساسية في التعليم، الصحة، والطرق.

– تقديم حوافز للاستثمار في المناطق الريفية.

– نقل بعض المؤسسات والمرافق إلى المناطق النائية لتشجيع الاستقرار فيها.

– إطلاق حملات توعوية إعلامية لإعادة الاعتبار للحياة في مناطق الضواحي..

ويشدد المهندس الزراعي “عادل بوحليقة” على أن “الحلول موجودة، لكن ينقصنا الإرادة السياسية والتخطيط الجاد”..

شاهد أيضاً

د.علي المبروك أبوقرين

المثلث القاتل للنظام الصحي

 د.علي المبروك أبوقرين في ظل الواقع الليبي الراهن والظروف الاجتماعية والاقتصادية ، والنسيج المجتمعي الهش …