محمود السوكني
ليس أعز على الإنسان من وطنه ولا اغلى إليه من ترابه ، ففيه نشأ و ترعرع و نسج ذكرياته بحلوها ومرها ، شهد أديمه طفولته ، و عرفت مساربه صباه برعونتها و طيشها و تهورها ، و صقل على مدارجه شبابه ، و تكونت على دروبه ملامح شخصيته من طموح حالم و توق متقد و شوق عارم ، يهفو للنجاح و يرنو للتفوق و التميز و تحقيق الأماني الغوالي .
الوطن ذاكرة الحياة ، و سر جمالها و سبب وجيه للتعلق بها ، و من لا وطن له لا حياة له ، و لا معنى لوجوده ، فهو أقرب ما يكون إلى الشيء المهمل الذي تتقاذفه الأنواء ، و تذروه الرياح وتعصف به الأعاصير .
قد نفقد الأهل و نضيّع الأصدقاء ، و لكننا أبدأ لا نفرط في ذرة تراب من الوطن الذي إليه ننتسب و بهويته نعتز ، و بتاريخه نفخر و نزهو و إن كانت بعض ملامحه قاتمة ، وإن كانت بعض جوانبه مظلمة فنحن من صنعها ونسج فصولها وأدار وقائعها وأحداثها .
نجوب الدنيا و قلوبنا معلقة على جدران الوطن ، نطوف الأمصار و الأوطان و عيوننا مشدودة إلى حوارينا و أزقتنا و شوارعنا و مراتع صبانا ومكمن هوانا .. عندما يصوغ العشق أشجانه ، تكون ليبيا .. و عندما يهيم بنا الشوق ، تكون ليبيا .. و عندما يكون الفرح تكون ليبيا .. وحدها التي تصنع بهجته و هي من يحبِكُ فصوله و يبعث أسبابه و دوافعه .
لها وحدها يكون الانتماء ، وبترابها المقدس يكون الانتساب والولاء و من أجلها تكون التضحية ويحلو الفداء .
“لو تؤمريني
فوق نسمة انطير
و نجيبلك حزمة نجوم تنير”
نشيد الشعب الذي يجسد معنى الانتماء وصدق الهوية و عمق الأصالة و حقيقة الارتباط الذي لا فكاك منه إلا بالموت .
“لو تطلبي عربون
قفطان غرزاته هذب العيون
و زرایره دقات قلب حنون”
ليبيا .. الوطن الأم ، معنى الوجود ، تستحق كل هذا و أكثر فالحضن الدافئ الذي ضمّنا سنين العمر ، و الصدر الحنون الذي دفنّا فيه رؤسنا وأغدق علينا من دفق مشاعره ، وحده الجدير بأن نفديه باعمارنا و نهبه أرواحنا و نروي ثراه بعرقنا ودمائنا .
عندما سطر أمير الشعر الغنائي “أحمد الحريري” هذه الأبيات الوطنية الخالصة كان ينطق بإسمنا جميعاً ، و كان ينقل بحرفية يجيدها كل الأحاسيس و المشاعر الفياضة التي نحملها لهذا الوطن و نكنها لثراه الطاهر .
لم يكن “أحمد الحريري” يبث لواعج قلبه بل كان يصوغ ترنيمة عشق تختلج في صدورنا جميعا لم يكن وحده العاشق ، بل كان يقود ملايين العشاق في تظاهرة لإعلان وثيقة الانتماء .
ليبيا .. تلك البقعة الطاهرة و ذاك الاسم البديع التي ترابها من تراب الجنة و أرضها منبث الزهر و الحناء لا يضاهيها شيء و لا تدانيها أرض و لا تفوقها بلاد مهما سطع بريقها ، أو علا نجمها ، أو ارتفعت اسهمها ، فكل البلاد تصغر أمام راياتها ، و كل الأماكن تسقط عندما يذكر اسمها المنقوش على شغاف القلوب القابع في خلجات الصدور .